قرارات تعقيبيّة خلاقة
(قراءة في بعض قرارات محكمة التعقيب الحديثة في القواعد العامة للعقد)
سامي الفريخة
المعهد الأعلى للدارسات التجارية بقرطاج
1. كانت النية تتجه في البداية إلى دراسة الدور الخلاق لمحكمة التعقيب في المادة المدنية. ومثل هذا الموضوع لم يكن يؤخذ من باب الجزم بوجود دور خلاق بل من باب الفرضية التي يجب التحقيق من وجودها. وإذا كنا نريد أو نوضح أكثر فإن الدور الخلاق كان محل استفهام أكثر منه محل تأكيد.
ينطلق الحديث عن الدور الخلاق لمحكمة التعقيب من فكرة "مسبقة"، قد تكون مثالية لدى الفقهاء، تفيد أن محكمة التعقيب تخلق أو تنشأ القواعد القانونية بمثل ما يخلقها المشرع وهذا لا يتطابق مع الواقع لضرورات تقنية وسياسية معروفة. فدور فقه القضاء في خلق القانون هو دائما دورا تابعا وثانونيا.
فالتبعية مردها أن القاضي مدعو للخضوع للقانون وهو مقيد بواجب تعليل قضائه بالرجوع إلى قاعدة موجودة سلفا وخارجة عن سلطته. ولا يتدخل القاضي في تحقيق مضمون القاعدة القانونية إلا بالقدر الذي تتشكل وتظهر به عبر تعبيراتها اللغوية الواضحة حينا والغامضة حينا آخر وعبر حسن أو سوء تنظيمها أو على الأقل حسب إمكانية ظهور اختلافات بين قواعد عامة وأخرى خصوصية وبين قانون قديم وقانون جديد وبين مصدر شكلي ومصدر مادي (نقصد مصدر تاريخي وعرفي وديني وبراغماتي وأخلاقي).
أما الطابع الثانوي للخلق فهو محكوم بطبيعة التنظيم السياسي للبلاد الذي يجعل سلطة التقنين حكرا على هيئات سياسية منتخبة بحيث لا يكون فيه مجال للقاضي لإنتاج القانون إلا بالقدر الكافي لآداء وظيفته الإجتماعية في فصل النزاع المطروح عليه وهو لا يتوقف على سهو المشرع.
فخلاصة القول هو أن الدور الخلاق يتخذ في هذه الحدود معنى خافتا يفيد فقط مساهمة القاضي في رفع الغموض عن النصوص وفك التناقضات الذي تحدث بينها وملئ فراغاتها إن وجدت.
2. كان مشروع الموضوع يتجه إلى تناول الدور الخلاق في شتى فروع القانون المدني منذ نشأة محكمة التعقيب إلى تاريخ يومنا هذا. والغرض من ذلك استشراف المستقبل لبيان اتجاهات تطور القانون التونسي سواء من حيث مصادره الشكلية (مركز ودور القضاء في تنظيم العلاقات الإجتماعية) أو من حيث مضمونه. وفي اتجاه ذلك السبيل وقع التفكير في عدة تقسيمات للموضوع. فمثلا كان يمكن تقسيم الأحكام القضائية حسب التقسيم الأكاديمي للقانون المدني (العقود، المسؤولية المدنية، الأموال، الأحوال الشخصية، الأشخاص والحقوق والإثبات) أو أيضا حسب أهمية الأحداث الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي مرت بها البلاد (بالنظر إلى تقسيم الأحداث القانونية الهامة تنظيم الأسرة، فترة التعاضد، الإضطرابات الإجتماعية، الصراعات السياسية، الليبرالية الإقتصادية). كما كان ممكنا اعتماد تقسيم الموضوع بالنظر إلى طبيعة عملية الخلق القانوني (الخلق برفع الإلتباس والتناقض بين القواعد القانونية أو الخلق بملىء فراغ التشريع سواء كان الفراغ حقيقيا أو مصطنعا).
3. ليس من شك أن تعاطي هذا الموضوع على نطاق زمني كبير وبالإتساع المادي الذي ذكرناه يخرج عن قدرة الفرد الواحد وهو يحتاج إلى أدوات بحث وجهد استنباط ذا بال. ولهذا فقد تم التفكير في تحديد نطاق الموضوع على نحو يكون قابلا للتحقيق من ناحية عملية. ومثلما يقال فإننا لا نجد سوى ما نبحث عنه وما نجده يغير ما نبحث عنه.
لما نظرت في المحاضرات التي ستلقى على مسامعكم خلال هذه الأيام الثلاثة انتابني نوعا من القلق. فكل شيء سيقال تقريبا. فالمداخلات شملت مادة العقود ومادة المسؤولية المدنية ومادة الأحوال الشخصية والأموال والمناهج إلخ. فإذا كنت سوف أتحدث عن فقه القضاء الخلاق في جميع هذه المواد فإن الخوف كل الخوف هو أن تكون المحاضرة فسيفساء غريبة التشكيل تفقد طابعا تأليفيّا.
كان من اللازم إذن تحديد نطاق البحث في مادة معينة من مواد القانون المدني. لأن هذا هو التوجه العام لكل الدراسات التي تتطرق إلى فقه القضاء الخلاق. ومن الطبيعي أن لا يتطرق الباحث إلى مجال من مجالات العلم التي ليست له فيها تخصصا. ونفهم والحالة تلك لماذا استتبعت عنوان المحاضرة الرئيسي بعنوان ثانوي يحصر المحاضرة في مجال النظرية العامة للعقد.
بقي لي أن أبرر لماذا حصرت المحاضرة في دراسة فقه القضاء الحديث وأقصد من وراء ذلك الفترة الممتدة بين 1994 و2007 (تحصلت امس على قرار متفرد صادر في سنة 2009). لماذا هذا التحديد التاريخي لفقه القضاء؟ في الحقيقة هناك سببان أصليان وسبب ثانوي. أما السبب الأصلي الأول فهو نزعتنا إلى الإهتمام بالقرارات الحديثة لمحكمة التعقيب. لأن القرار الحديث يحمل ضمنيا تعبيرا عن النفاذ في الواقع. فكما لو كان يفهم القرار الحديث بمعنى فقه القضاء الوضعي أو الجاري به العمل حاليّا. فإذا كنا نبحث في فقه القضاء القديم فإننا نخشى أن نكون بصدد القيام بدراسة تاريخية للقانون وليس بدراسة وضعية. أما السبب الثاني فهو متصل برغبة استشراف المستقبل. فتطور فقه القضاء في المستقبل مرتبط أكثر بما هو عليه فقه القضاء اليوم أكثر من ارتباطه بما هو عليه منذ 50 سنة خلت. أما السبب الثانوي فهو متصل بسعة المادة وقلة الوقت المتاح. لا أخفي عنكم أن المحاضرة في شكلها الحالي مازالت تحتاج إلى ترتيب.
لن أجازف عند تحديد قسمي هذه المحاضرة وسوف اتبع تمييزا تقليديا بين تكوين العقد (القسم الأول) وآثار العقد (القسم الثاني) وسوف نعتمد في عرضنا هذا على المنهجية التالية. نتولى طرح الإشكال القانوني المعروض على محكمة التعقيب ثم الجواب الذي قدمته المحكمة وننتهي بمناقشته.
القسم الأوّل : تكوين العقد
نتناول في هذا القسم أهم القرارات الحديثة التي صدرت عن محكمة التعقيب في مادة الأهلية (الفقرة الأولى) والرضاء (الفقرة الثانية) ومرض الموت (الفقرة الثالثة)
الفقرة الأولى : أهلية التعاقد
4. كان السؤال القانوني المطروح على محكمة التعقيب في القرار عدد 49004 مؤرخ في 10 فيفري 1998 (نشرية 1998 ص. 24.) يتعلق ببطلان عقد بيع أجراه الولي (الأم في صورة الحال بعد وفاة الأب) في حق ابنه القاصر بدون رخصة من قاضي التقاديم ؟ فهل أن رخصة قاضي التقاديم هي شرط صحة عقد البيع المجرى من طرف الولي في حق ابنه القاصر؟ قضت محكمة البداية بعدم سماع دعوى البطلان معتبرة أن إذن قاضي التقاديم ليس شرط صحة وأن المشرع لم يرتب على عدم تقديمه البطلان. إلا أن محكمة الإستئناف نقضت الحكم الإبتدائي وقضت لصالح الدعوى.
أسست مستندات التعقيب الطعن على وجه الخصوص على مقولة أن الفصل 15 م.إ.ع لم يرتب جزاء على عدم التحصيل على إذن حاكم التقاديم ذلك أن حاكم التقاديم يخص توابع العقد ولا شروطا من شروطه ولا يوجد نص يتعلق ببطلان العقود المبرمة ضمن الفصل 15 من م.إ.ع ولا بطلان بدون نص. وأضاف المعقب أن إذن قاضي التقاديم موكول لعناية الولي القائم بإدارة مكاسب القاصر وكان على المدعي القيام على الولي لمطالبته بما لم يلتزم به قانونا وتحميله مسؤولية إخلاله بما ألزمه به القانون وان الفصل 15 من م.إ.ع يخص علاقة الولي في تصرفه في ممتلكات القاصر.
5. نقضت محكمة التعقيب الحكم الإستئنافي القاضي بالبطلان. وذهبت في نفس اتجاه المعقب معللة قرارها على النحو التالي :
وحيث أنه لا خلاف في أن الفصل 15 من م.إ.ع. ولئن أوجب على الولي عدم التصرف فيما هو موكول لنظره بالبيع إلا بإذن خاص من الحاكم المختص إلا أنه لم ينص على بطلان العقد المبرم بدون الحصول على الإذن المذكور وان الفصل 16 الموالي له ولئن اقتضى كذلك أن ما يتممه الولي في مصلحة الصغير على الصور المقررة بالقوانين تعتبر مثل الأعمال الصادرة عن الرشيد المتولى مباشرة حقوقه بنفسه فإنه لم ينص على البطلان إلا في خصوص التبرع ولو بالإذن المطلوب قانونا.
وحيث أن الفصل 7 من الأمر المشار إليه وإن اقتضى أن حاكم التقاديم يأذن كتابة المقدم أو الولي بإجراء التصرفات التي تتوقف على إذن سابق من طرفه حسب النصوص الجاري بها العمل إلا أنه لم ينص كذلك على إبطال تلك التصرفات في صورة عدم الحصول على الإذن المذكور.
وحيث ولئن اقتضى الفصل 8 من م.إ.ع. أن الصغير الذي تجاوز ثلاثة عشر عاما إذ عقد بلا إذن الأب أو الولي لا يلزمه شيء من جراء ذلك وله أن يطلب فسخه على الشروط المبينة بهذا القانون وان الفصلين 330 و331 من نفس المجلة أكدا ذلك الجواز وحددا أجلا لسقوط القيام بذلك بعام من تاريخ بلوغ القاصر سن الرشد إلا أنه لا محل لهذه الأحكام في قضية الحال باعتبار ان العقد المطلوب إبطاله ابرم من طرف الولي الشرعي.
وحيث إن ما جاء بالفصل 15 من م.إ.ع. بإلزام الولي بالإسترخاص من الحاكم المختص قبل إبرام بعض العقود ذات الأهمية على مصلحة القاصر وان أدمج بالأمر المؤرخ في 3 أوت 1956 في باب الأهلية إلا أنه في الحقيقة لا يقيد أهلية الولي في التصرف في حق منظوره في تلك الوجوه وتجريده من حق إبرام تلك العقود لأنه لم يسندها إلى الحاكم المختص وإلا أوجب إمضاء هذا الأخير على العقد أو على الأقل التنصيص بالعقد على ترخيصه بإبرامه ولأصبح الولي هو ذاته مقيد الأهلية وبالتالي لا معنى لوجوده أصلا.
وحيث أنه تأسيسا على ذلك فإن عدم احترام هذا الإجراء من طرف الولي الشرعي لا يهم إلا علاقته بحاكم التقاديم بوصفه مشرفا على تصرفات المقدمين العموميين وحقه في اتخاذ التدابير اللازمة التي اقتضاها ذلك الأمر أو علاقة ذلك الولي الشرعي بمنظوره طبقا لأحكام الوكالة غير المأجورة على معنى الفصول 1116 وما بعده من م.إ.ع.
وحيث أن عدم احترام هذا الإجراء من الولي يمكن بهذا المعنى أن يعتبر قرينة لفائدة منظوره في صورة القيام عليه بالخسارة طبق الفصل 497 من م.إ.ع أي يمكن أن يكون عاملا من العوامل التي تساعده أو تقف ضده في تحمل تبعة الضمان المشدد عليه طبق الفصلين 1131 و1132 من نفس المجلة في صورة القيام عليه من طرف منظوره طبق الفصل 1140 من م.إ.ع.
6. يبدو هذا القرار مخالفا لقرارات سابقة[1] أو لاحقة لمحكمة التعقيب[2] وهو أيضا مخالفا لما ذهب إليه بعض الفقهاء[3]. ما يهمنا في هذا تحليلنا لهذا القرار هو معايير التأويل التي اعتمدتها محكمة التعقيب. فكيف وصلت محكمة التعقيب إلى تقرير صحة عقد البيع المبرم من طرف الولي دون إذن من قاضي التقاديم ؟ نتلمس في هذا القرار العديد من الحجج القابلة للنقاش.
7. انطلقت محكمة التعقيب، بصورة ضمنية، من قاعدة تفيد أنه لتقرير البطلان يجب أن ينص القانون صراحة على بطلان العقد المجرى بدون إذن من القاضي. فلا بطلان بدون نص وهو نفس الموقف الذي استند عليه الطاعن. بعد أن وضعت القاعدة التي قررت المحكمة الإستناد عليها راحت تبحث ضمن النصوص القانونية المؤسسة أو المنطبقة على أذون قاضي التقاديم لتصرفات الولي عما يفيد بطلان العمل القانوني المجرى بدون إذن. كانت النصوص القانونية المرجعية هي الفصول 8 و15 و16 و330 و331 من مجلة الإلتزامات والعقود. ويمكننا أن نناقش موقف محكمة التعقيب من قاعدته الضمنية (لا بطلان بدون نص) أو من تأويلها للفصلين 8 و16.
8. يبدو أن قاعدة لا بطلان بدون نص مستمدة من الفصل 330 م.إ.ع الذي جاء فيه انه يجوز الفسخ في الصور المبينة بالفصل 8 والفصل 43 والفصل 58 والفصل 60 والفصل 61. فهذا التعداد يفيد ان البطلان لا يكون إلا جزاء للإخلال ببعض شروط تكوين العقد المضبوطة حصرا بالفصول المذكورة. وتبعا لهذا التأويل فإنه يستتبع انه لا وجود للبطلان الضمني الذي يتيح للقاضي البحث عما إذا كان الإخلال بقاعدة قانونية معينة مؤدي إلى بطلان العمل القانوني المجرى على وجه مخالف بالنظر إلى المصلحة التي ترمي حمايتها القاعدة القانونية. وقد يذهب مناصرو نظرية البطلان الضمني إلى تأسيس سلطة القاضي في الحكم بالبطلان على القاعدة الكلية التي تقتضي "إذا صرح القانون بالنهي عن شيء معين كان إتيانه باطلا لا ينبني عليه شيء" (الفصل 539 م.إ.ع). وتطبيق هذه القاعدة على سلطات الولي في إبرام عقود تصرف في حق منظوره ممكن لأن الفصل 15 نص أنه ليس للولي أن يتصرف وهذا يحتمل النهي عن القيام بعمل دون مطابقة للقانون.
9. لاحظت محكمة التعقيب أن الفصل 8[4] يقر صراحة جزاء البطلان إلا أنه غير منطبق لأنه يتعلق ببطلان العقود التي يبرمها القاصر شخصيا دون إذن من الولي وهو لا يتعلق ببطلان العقود التي يبرمها الولي بدون إذن من القاضي.
لم تلتف محكمة التعقيب إلى الفقرة الثانية من نفس الفصل 8 التي نصت على أن العقد الذي يبرمه القاصر بنفسه يصح إذا أجازه الأب أو الولي على الصورة المطلوبة قانونا. فإجازة الأب (أو الولي) لعقد تفويت يبرمه القاصر لا تكون مصححة للعقد إلا إذا كانت طبق الصورة المطلوبة قانونا أي هنا طبق الفصل 15 من مجلة الإلتزامات والعقود. فالعقد يبقى قابلا للإبطال إذا تم التصديق عليه بدون إذن من القاضي وهذا معناه أنه سواء أبرم القاصر العقد بنفسه أو أجازه الولي بدون إذن من القاضي فإن البطلان يكون جزاء منطقيا.
لم تنتبه محكمة التعقيب لحظة إلى ما يمكن التعبير إعمال للقياس. فإذا كان الأب لا يمكنه أن يجيز القاصر بأن يجري بنفسه عقد تصرف دون إذن من القاضي فهو لا يمكنه أن يجري بنفسه العقد بدون إذن من القاضي. فمن الغريب جدا أن يكون العقد صحيحا إذا أجراه الولي بنفسه في حق القاصر بدون إذن من القاضي وغير صحيح إذا أجراه القاصر شخصيا بإجازة من الولي لكن دون إذن من القاضي.
10. رجعت محكمة التعقيب أيضا إلى الفصل 16 من م.إ.ع. ملاحظة على وجه الخصوص أن هذا النص لا يقر صراحة البطلان إلا بخصوص عقود التبرع المحض التي يجريها الولي ولو بإذن من القاضي وعلى هذا النحو بدا لمحكمة التعقيب أن النص لا ينطبق على غيرها من عقود التصرف المجراة بدون إذن من القاضي.
إذا كانت محكمة التعقيب انتهت في الحيثية المتعلقة بتحليل الفصل 8 إلى حدود الفقرة الأولى من النص دون التفكير في معنى الفقرة الثانية وأبعادها، فإنها عند تطرقها إلى الفصل 16 انتبهت إلى آخر النص دون أوله وهذا أدى بها أيضا إلى الوقوع في الغلط لأن الفصل 16 تطرق في مجمل القول إلى آثار العقود التي يبرمها الولي في حق منظوره على الصور المقررة بالقوانين. فهي عقود صحيحة وبالتالي ملزمة للقاصر. وبالعكس تكون العقود التي يبرمها الولي على غير الصور المقررة قانونا غير صحيحة وبالتالي قابلة للبطلان. فالفصل 16 يبدو مواصلا للفصل 15.
زيادة على ذلك لم تر محكمة التعقيب في آخر الفصل 16 علاقة مع الفصل 15. فالمشرع تحدث صلب هذا الفصل عن العقود التي يجريها الولي في حق منظوره بإذن من القاضي وخصص البعض دون الآخر وهي عقود التفويت عموما. وعقود التفويت تشمل عقود التبرع المحض فهنا استدرك المشرع ليبين أن مثل هذه العقود تكون باطلة حتى ولو أذن بها القاضي أي أنها لا تستكمل شروط صحتها بإذن من القاضي وهذا يعني عقلا أن غيرها من العقود التي لم يأذن بها القاضي تكون منقوصة من شروط صحتها ومن ثمة فهي باطلة. أخيرا وجب التنبيه إلى نفس العبارة (الصور المقررة قانونا) وردت في الفصلين 8 و16 من م.إ.ع. بخصوص أعمال الأب سواء كانت إجازة للقاصر بأن يتصرف أو تصرف مباشر من الأب في أموال منظوره. ففي كلتي الحالتين يجب أن يتصرف الولي طبق الصيغ المقررة قانونا.
11. أضافت محكمة التعقيب حجة نصية سلبية حتى تستقر على حكمها بأن إذن القاضي للولي ليس شرط صحة للعقد. فالمشرع حسب محكمة التعقيب لم يشترط صلب الفصل 15 أن يتم التنصيص على الإذن صلب العقد وهذا يحمل معناه بأن الإذن ليس شرط صحة للعقد.
قد تكون محكمة التعقيب تقيس هنا بما نص عليه المشرع في القانون المتعلق بالعمليات العقارية التي يكون احد أطرافها أجنبي. فالمشرع يخضع لترخيص الوالي العملية ويشترط التنصيص على الترخيص صلب العقد نفسه.
ليس من شك أن الأمر اختلط الأمر على محكمة التعقيب فهي رأت في شرط الرخصة وشرط التنصيص على الرخصة صلب العقد شرطا واحدا والحال أنهما شرطان شكليان مختلفان. فقد يستدعي الأمر الحصول على رخصة مسبقة لإجراء عمل قانوني دون أن يذهب المشرع إلى حد التنصيص على تلك الرخصة صلب العقد ويكفي أن تكون الرخصة موجودة وسابقة. وإن حدث ان اشترط المشرع التنصيص علاوة على الإسترخاص فهذا أمر مختلف. ذلك ان الشروط الشكلية تأول تأويلا ضيقا ولا يجوز القياس عليها.
12. هل كانت محكمة التعقيب شاعرة بضعف موقفها حتى تبحث عن حجج إضافية؟ يبدو ذلك. فالنتيجة المنطقية التي آل إليها تفسيرها للفصل 15 حملتها إلى أن تجيب عن سؤال مشروع يتعلق بالسبب الذي جعل المشرع يؤسس إلى تدخل القاضي بالإذن. فما الفائدة في تدخله إذا لم يكن ذلك مؤديا إلى نتيجة قانونية (أي إلى جزاء)؟
كانت محكمة التعقيب واعية بأنه يجب أن يكون لكل قاعدة معنى قانونيا. وهذا حملها إلى القول بأن آثار غياب إذن القاضي لا تطرح إلا في العلاقة بين الولي والقاصر في صورة حصول ضرر لهذا الأخير. فإذن القاضي هو شرط لممارسة رقابة على الضرورة والمصلحة من التصرف القانوني الذي يجب أن يراعيه الولي عندما يتصرف في حق منظوره. وغياب الإذن يقوم قرينة على انعدام الضرورة والمصلحة في العمل ومن ثمة يمكن أن تقوم مسؤولية الولي. تثير مثل هذه القراءة للفصل 15 من م.إ.ع ملاحظتين.
13. قد نقبل تفسير محكمة التعقيب بأن الرخصة تنتج آثارها في العلاقة بين القاصر والولي إلا أننا لا نملك أن نسجل في ذلك تناقضا مع موقفها الذي عبرت عنه في الحيثية السابقة لما قالت أن الفصل 15 من م.إ.ع. "ولئن ألزم الولي بالإسترخاص من الحاكم المختص قبل إبرام بعض العقود ذات الأهمية على مصلحة القاصر إلا أنه في الحقيقة لا يقيد أهلية الولي في التصرف في حق منظوره في تلك الوجوه وتجريده من حق إبرام تلك العقود لأنه بهذه الحالة يصبح الولي هو ذاته مقيد الأهلية وبالتالي لا معنى لوجوده أصلا". فحتى لو فرضنا أن الترخيص ينتج آثارا فقط في العلاقة بين القاصر والولي فإن محكمة التعقيب لا تفلت من أن تجعل الولي مقيد السلطات (وليس مقيد الأهلية كما عبرت عن ذلك المحكمة) بالخضوع إلى ترخيص القاضي والتالي لا معنى من ولايته.
14. تدعو العلاقة القانونية التي قامت بنسجها محكمة التعقيب بين الولي والقاصر[5] إلى تمييز ضمني (لكنه ضروري) للعلاقة بين القاصر والمتعاقد معه. فهل ترى المحكمة في العلاقة مع المعاقد معه أنه لا يجوز للقاصر طلب بطلان العقد على أساس غياب ترخيص القاضي. إذا كان الأمر كذلك فما هو مبنى الحل ؟ هل ترى المحكمة ضمنيا أن الطرف المتعاقد معه يستحق حماية عندما يتعاقد مع القاصر عن طريق وليه الشرعي ؟ لو صح مثل هذا الإعتبار في المفاضلة بين مصلحة القاصر ومصلحة المعاقد معه وتغليب مصلحة هذا الأخير فإن هذا سوف يؤدي إلى انخرام النظام القانوني للأهلية. فالقاصر أو المحجور عليه هو الذي يستحق الحماية ولنا أحسن مثلا في ما نص عليه الفصل 10 من م.إ.ع الذي يجيز طلب فسخ العقد الذي يبرمه القاصر مع استعمال الحيلة لحمل المتعاقد معه على الإعتقاد بكونه رشيدا أو مأذونا من وليه.
الفقرة الثانية : الرضاء
15. تتعدد القرارات في هذا الركن من أركان العقد. فقد نظرت محكمة التعقيب في الخلاف حول وجود الرضاء لمرض نفسي طرأ على المعاقد طالب البطلان (أ). كما تطرقت إلى مسالة التعبير الخارجي للرضاء (ب) ولرضا المعاقد الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة (ت).
أ- انعدام الرضا (قرار عدد 5050 مؤرخ في 8 فيفري 2005 نشرية 2005، ص. 129)
16. كانت الدعوى ترمي إلى التصريح ببطلان عقدي بيع أبرمها شخص في قائم حياته أثناء أصابته بمرض الألزامير. وحتى نقف على النقاش القانوني الذي يمكن أن يدور حول أساس دعوى البطلان نذّكر بالسند القانوني الذي حدده المدعين لدعواهما. فقد جاء في عريضة الدعوى أن مورث المدعين أصيب بمرض الالزامير الذي أفقده كامل مداركه العقلية وهو قام في قائم حياته ببيع نصف عقار أثناء مرضه المذكور أي أثناء فقدانه أهلية التعاقد وهو ما يجعل عنصر الرضا مفقودا وعلى هذا الأساس فهما يطلبان الحكم بإبطال العقدين.
كما نرى تراوحت مستندات البطلان بين ذكر عنصري الأهلية والرضا وهي تبدو على هذا النحو متأرجحة ومترددة وغير واثقة في المبنى القانوني الذي يمكن أن يؤسس للبطلان.
17. حسمت محكمة التعقيب المسألة واتخذت موقفا صريحا. فالبطلان يجد أساسه في انعدام الرضا. جاء في القرار ما يلي :
حيث إن مسألة غياب الرضا في الإلتزامات المحررة بعقود أو غيرها من المسائل القانونية أما ما مدى سلامة وسائل الضغط النفسي أو المرض وتأثيرها على إرادة المتعاقد إنما هي من الأمور الموضوعية التي تستقل بها محكمة الأصل وما عليها إلا مراعاة عدة اعتبارات من سن من وقعت عليه وحالته الصحية ومدى قرابته بالمتعاقد معه وكل ظرف آخر من شانه أن يؤثر في سلامة الإرادة.. وقد اعتمدت محكمة الموضوع على الشهادة الطبية التي تضمنت أن البرء النهائي للمورث لم يتم من الإكتئاب الذي من شأنه أن يحدث ضغط نفسي كبيرا لديه وبالتالي انعدام الرضا لديه خاصة أمام درجة القرابة مع ابنه المشتري بالإضافة إلى ما أكده الحكيم ..من أن المورث عاجز عن الإلتزام تحت مسؤوليته الكاملة عن الشؤون التي تهمه وكان يستوجب السند والمساعدة الدائمة من طرف الغير وقضت باعتبار ضعف المدارك العقلية لدى المتعاقد إبان تحرير العقد.
18. يلقى المرضى النفسانيون عادة حماية عن طريق التحجير عليهم وتعيين مقدم قضائي يتولى تصريف شؤونهم[6]. فالقانون يضع في هذه الحالة قرينة قاطعة تفيد أن المحجور عليه ليست له إرادة. لا يشكل ذلك عيبا من عيوب الرضا بل أكثر من ذلك فهو نقص دائم في الإرادة يجعل المحجور عليه غير مؤهل لممارسة حقوقه.
19. قد يحدث أن يبقى المريض النفسي بدون حماية مسبقة ومنظمة. وعلى هذا النحو لا يمكن أن نقول أنه منعدم الأهلية. فانعدام الأهلية بالنسبة للراشد يقتضي صدور حكم قضائي بالتحجير عليه لمريض نفسي[7].
يطرح السؤال حينئذ حول إمكانية التصريح ببطلان عقد أبرمه المريض النفسي تحت طائلة المرض دونما أن يكون صدر حكم قضائي بالتحجير في وقت لاحق للعقد[8]. قد نميل إلى قبول ذلك اعتمادا على ما ورد بالفصل 59 من م.إ.ع الذي نص على أن "أسباب الفسخ المبنية على حالة مرض أو ما شاكله من الحالات موكولة لنظر الحاكم". وعبارة المرض وردت على الإطلاق فهي يمكن أن تكون ظرفا من ظروف الأحوال التي يراعيها القاضي عندما يقدر وجود عيب من عيوب الرضا[9] أو مرضا نفسيا خطيرا مؤدي إلى انعدام الرضاء بالنظر إلى تأثيراته على الإرادة. تبقى مسألة إثبات حالة المرض النفسي المؤدي إلى انعدام الإرادة في تاريخ إبرام العقد محل تقدير من طرف القاضي.
بقدر ما نتوافق مع محكمة التعقيب فيما ذهبت إليه بقدر منا نعيب عليها عدم تأصيل الحل الذي توصلت إليه على نص قانوني قد يكون الفصل 2 أو الفصل 59 من م.إ.ع أو كلاهما.
ب- التعبير عن الرضا (قرار عدد 8043 مؤرخ في 8 جانفي 2007 نشرية 2007 ص. 17)
20. نص الفصل 598 م.ت على أن الفاتورة المقبولة تعتمد كوسيلة إثبات الدين. قد تبدو المسألة المثارة امام محكمة التعقيب متصلة بوسائل إثبات الدين التجاري وهي ليست متصلة بالرضاء إلا أن عبارة "القبول" الواردة بالفصل 598 تحيلنا بلا شك إلى الرضاء.
كان السؤال القانوني المطروح هو معرفة هل يكفي أن يضع مكتب ضبط المدين ختما بتوصله الفاتورة حتى نقول أنه تم قبول الفاتورة.
21. ميزت محكمة التعقيب بين عملية استلام الفاتورة من حيث هي حدث مادي وبين القبول من حيث تعبير عن الرضاء. فلا يكفي إستلام الفاتورة (وإعطاء توصيل في ذلك الإستلام) بل بجب التعبير عن القبول الصريح بمضمونها. لا نملك إلا نتوافق مع محكمة التعقيب لأن السكوت لا يكون تعبيرا عن الرضا وقد اشترط المشرع صلب الفصل 2 من م.إ.ع أنه من أركان العقد التصريح بالرضاء تصريحا معتبرا. جاء في القرار التعقيبي الذي نحن بصدده :
إن استلام الفواتير من طرف موظفي مكتب الضبط وختمها لا يعني التسليم بما تضمنته والتصديق على محتواها ضرورة انه من اللازم التفريق بين استلام وثيقة والمصادقة على مضمونها باعتبار أن الفصل 598 اقتضى أن العقود التجارية تثبت بعدة وسائل ومن بينها قائمة البضاعة المقرونة بالقبول وكما سلف تبيانه قد استلام قائمة البضاعة ولم يثبت قبولها.
22. هذا من ناحية المبدا، إلا انه لم يثر النقاش أمام المحكمة عن المعنى الذي يمكن أن نعطيه لصمت المدين المتواصل بعد استلامه الفاتورة. فقد نص الفصل 29 من م.إ.ع على انه إذا كان الجواب بالقبول غير مطلوب لعارض العقد أو كان عرف التجارة يقتضيه تم العقد بمجرد شروع الطرف الآخر في العمل به وعدم الجواب يعتبر رضاء أيضا إذا كان الإيجاب متعلقا بخلطة تجارية تقدم الشروع فيها بين الطرفين.
قياسا على هذا النص هل يمكن اعتبار أن عدم رفض (عدم ترجيع) المدين للفاتورة التي استلمها يعتبر قبولا ضمنيا لمضمونها ؟ هل يمكن للمدين أن يستلم الفاتورة دون ردها بعد أن تمكن من الوقت الكافي لمراجعتها ؟ [10]
ت- التزام الأمي (قرار عدد 20716 بتاريخ 2 جانفي 2003، نشرية 2003، ص. 34 - قرار عدد 10394 مؤرخ في 7 أكتوبر 2007 نشرية 2007 ص، 151 – قرار عدد 45614 مؤرخ في 28 ماي 1998 مجموعة قرارات الدوائر المجتمعة 1997-1998، ص. 7)
23. ترمي الدعوى في هذين القرارين إلى إبطال عقد بناء على الأمية بعد أن اكتفى الطالب التوقيع على العقد (مقاسمة بالنسبة للقرار الأول وبيع بالنسبة للعقد الثاني) بالتعريف على الإمضاء لدى السلطة البلدية.
جاء القرار التعقيبي الأول معللا على النحو التالي :
حيث اقتضى الفصل 454 من مجلة الإلتزامات والعقود[11] أن التزام الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة لا يمضي حتى يتلقاه عدول أو غيرهم من المأمورين العموميين المأذونين في ذلك.
وحيث يؤخذ من هذا النص القانوني أن التزام الأمي لا يكون نافذا إلا متى تلقاه عدول أو غيرهم من المأمورين العموميين والمقصود بتلقي الإلتزام هو تلاوة ما وقع تحريره والتنصيص على ذلك بالمحرر حسبما يستفاد من الفصل 22 من القانون عدد 60 لسنة 1994 المؤرخ في 23 ماي 1994 المتعلق بتنظيم مهنة عدول الإشهاد والفصل 378 م.ح.ع. المتعلق بالكتائب المقدمة للترسيم برسم الملكية أما مجرد التعريف بالإمضاء دون تلاوة ما وقع تحريره والتنصيص على ذلك الكتب فإنه لا يعدو أن يكون إلا تعريفا بهوية الممضي والدليل على ذلك أنه يمكن التعريف بالإمضاء دون حضور المعني بنفسه إلى السلطة المكلفة بالتعريف بالإمضاء متى تعلق الأمر بإمضاء وقع إيداعه من قبل كما اقتضت ذلك الفقرة الثالثة من الفصل الثالث من قانون عدد 103 لسنة 1994 المؤرخ في أول أوت المتعلق بتنظيم التعريف بالإمضاء.
وجاء القرار التعقيبي الثاني معللا على النحو التالي :
حيث اقتضى الفصل 454 مجلة الإلتزامات والعقود أن التزام الأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة لا يمضي حتى يتلقاه عدول أو غيرهم من المأمورين العموميين المأذونين في ذلك وان القصد من ذلك هو حماية الأمي من نتيجة التزام لم يقصده ولا يعرف مضمونه وان ما تضمنه الفصل 454 المشار إليه يستوجب تلقي مضمون الإلتزام من طرف العدول أو غيرهم من المأمورين المأذونين في ذلك بحضور الأمي وذلك بغاية اطلاعه على فحواه وقد تعزز ذلك بما أوجبه الفصل 378 من م.ح.ع من ضرورة تلاوة مضمون الإلتزام عليه إذا اقتضى أنه إذا كان الأطراف غير قادرين على الإمضاء أو لا يحسنونه تجب تلاوة الكتب عليهم لدى إحدى السلط المذكورة به بمحضر شاهدين يحسنان الإمضاء ويتمتعان بأهلية التعاقد وتشهد السلطة المتعهدة بأنها تعرف الأطراف كما تشهد بان هؤلاء الأطراف قد صرحوا بأنهم استوعبوا مضمون الكتب وقبلوا شروطه. وخلافا لما ذهبت محكمة القرار المنتقد فإن عملية التعريف بالإمضاء أمام رئيس البلدية أو من ينوبه تثبت فقط نسبة الإمضاء للعاقد أمامه ولا تفيد اطلاعه على مضمونه ...
24. تضمن هذان القراران تعريفا لعبارة تلقي الإلتزام من المأمور العمومي.
قد يفهم من النص أن المأمور العمومي يتلقى الإلتزام عندما ينتصب للإنصات للامي ليسمع منه تصريحه بالإلتزام. وعلى هذا النحو فإن المأمور العمومي يحرر كتبا يفيد تلقيه التزام الأمي على النحو الذي سمعه. لا تقتصر محكمة التعقيب على هذا المعنى وهي تقتضي تلاوة العقد المكتوب على الأمي وإفهامه له.
25. في الحقيقة توضح النصوص القانونية الخاصة المنطبقة على مهنة عدول الإشهاد الإلتزامات المحمولة عليهم عند تحرير العقود. فعدل الإشهاد الذي لا يحرر العقد بنفسه ملزم بتلاوة العقد على الطرفين سواء كانوا يحسنون أم لا القراءة.[12]
26. يبقى الإشكال مطروحا بخصوص العقود التي يكتفي أطرافها بالتعريف بتوقيعهم لدى السلطة البلدية. تعتبر محكمة التعقيب أن التعريف بالإمضاء هو مجرد تعريف بالهوية ويكون التوقيع كافيا إذا كان الطرف الملتزم يحسن القراءة أما إذا كان أميا فالمطلوب تلاوة العقد على الأمي وهي ترى أن تلقي التزام الأمي من هذه السلطة يجب أن يكون على الصيغة المبينة بالفصل 378 م.ح.ع. أي بتلاوة العقد بمحضر شاهدين يحسنان الإمضاء يتمتعان بأهلية الإلتزام.
تكمن أهمية هذين القرارين في كونهما من جهة أولى يربطان بين الفصلين 454 من م.إ.ع. و378 م.ح.ع ومن جهة ثانية يعتبران الفصل 378 م.ح.ع هو نص عام يتجاوز نطاق سياقه الخاص[13].
وقد نلمس في هذا الفهم للفصل 454 تأثرا بما ورد بالفصل 507 من المشروع الأولي لمجلة الإلتزامات والعقود الذي اقتضى أن الكتائب الخطية التي تحمل إمضاء أشخاصا أميين يجب أن تكون ممضاة من شاهدين على الأقل ومصادق عليها من القاضي أو عدل الإشهاد أو مأمور عمومي آخر مأذون في ذلك والذي يجب عليه قبل المصادقة إفهام الطرف الأمي بمحتوى إلزامه وينص على ذلك عند المصادقة[14].
27. اتخذت محكمة التعقيب في قرار مبدئي صادر عن الدوائر المجتمعة (قرار 45614 مؤرخ في 28 ماي 1998، فقه قضاء الدوائر المجتمعة 1961-2007 عصام الأحمر، ص. 33) موقفا بخصوص طبيعة البطلان المنجر من عدم احترام الصيغ القانونية لالتزام الأمي الإرادي فالعقد يكون باطل بطلانا نسبيا لأن المشرع أراد حماية الأمي مما قد يشوب إرادته من عيب. وينجر عن هذا طلب البطلان لا يمكن القيام بها إلا من طرف الأمي أو خلفه ولا يجوز للقاضي أن يتمسك بالبطلان من تلقاء نفسه[15].
الفقرة الثالثة : مرض الموت
28. يكاد لا يخلو فقه قضاء محكمة التعقيب المنشور كل سنة في نشرية محكمة التعقيب من قرار أو عدة قرارات تتعلق ببطلان عقود تفويت أجريت في فترة مرض الموت وقد أشار الأستاذ نذير بن عمو إلى هذه الظاهرة باعتبارها تدل على أزمة في العلاقات العائلية[16].
يمكن ان نميز في فقه القضاء الحديث إشكاليتين بخصوص تطبيق الفصول 565 و354 و355 من م.إ.ع. الأولى تتعلق بتعريف بمرض الموت (أ) والثانية تتعلق بتوفر ركن المحاباة كشرط لتطبيقه عندما يكون البيع لفائدة غير وارث (ب).
أ- تعريف مرض الموت
29. يمكن أن نقول أن فقه القضاء الحديث على خلاف فقه القضاء في الستينيات والسبعينيات استقر على فهم دقيق لمرض الموت كسبب للبطلان يميزه عن صورة البطلان لانعدام الرضاء.
فقد جاء مثلا في القرار عدد 50827 مؤرخ في 19 فيفري 1998 نشرية 1998 ص. 138
حيث ان الشيخوخة مرحلة من المراحل الطبيعية لحياة الإنسان ولذلك فلا تعد من قبيل مرض الموت لأن مرض الموت هو المرض الذي يصيب الإنسان شيخا كان أو شابا وينتهي بالموت فعلا. وأن سبب إبطال البيع الواقع في مرض الموت لا يرجع إلى أهلية المريض ولا إلى عيب في إرادته لأن المريض مرض الموت لا يفقد أهليته ولا تنتقص هذه الأهلية ما دام حيا ولذلك فإنه يعتبر حافظا لوقاه العقلية ومتمتعا بأهليته إلى آخر حياته فإذا أفقد المرض المريض الميز فإن البيع يكون بطالا لانعدام الميز لا لمرض الموت.
لا يختلف ذلك القرار عن قرار صدر عن دائرة أخرى تحت عدد 49760 مؤرخ في 24 فيفري 1998 نشرية 1998، ص. 141[17].
حيث أسس المعقبون أسانيد استئنافهم في نفي الوقت على البطلان الناشىء عن جنون البائعة وعلى البطلان الناجم عن مرض الموت وهما في الواقع حالتان مختلفتان في الشروط والآثار القانونية ذلك ان المرض المعيب للرضا كالجنون مناطه أحكام الفصل 59 من م.إ.ع بينما أعمال المريض مرض الموت تندرج تحت طائلة أحكام الفصلين 354 و355 من نفس المجلة وهو ما درج عليه فقه قضاء محكمة التعقيب.
30. بعد تمييز مرض الموت عن انعدام الرضاء كان من اللزوم على محكمة التعقيب التعريف بمرض الموت. فقد جاء في القرار عدد 4140 مؤرخ في 19 جوان 2001 نشرية 2001، ص. 81 أن :
مرض الموت المخيف المنذر بالوفاة العاجلة وتغلب فيه الموت ويعجز معه المريض عن رؤية ومباشرة مصالحه وحالة المرض المخيف لا تثبت إلا بالمعاينة الطبية وهو أمر موضوعي موكول لاجتهاد محكمة الأصل ولا رقابة في ذلك عليها لكن بشرط التعليل..
وكما نرى فإن القرار اكتفى بالتوضيح بأنه الموت المنذر بالوفاة والمؤدي بالوفاة. غير أن الوفاة يجب أن تكون عاجلة. وقد حاولت بعض القرارات تحديد مدة زمنية لقياس أجل الوفاة من تاريخ ظهور مرض الموت فذهبت إلى ضبط أجل سنة بين حدوث المرض والوفاة. ومن ذلك القرار عدد 269 مؤرخ في 27 جوان 2005 نشرية 2005، ص. 149 [18].
حيث انحصر الخلاف في مدى توفر شروط مرض الموت.
وحيث أجمع شراح القانون والعديد من التشاريع على تعريف مرض الموت بكونه المرض المخيف والذي يغلب فيه خوف الموت ويقعد المصاب عن القيام بشؤونه العادية ويتصل بالموت والذي لا تطول مدته فيموت المريض على ذلك الحال قبل مرور سنة..
والمحكمة عند حديثها عن إجماع الفقهاء وعديد التشاريع لا تستند إلى أي مصدر واضح مما لا يتيح فرصة إجراء أي مراقبة.
31. بدت مثل هذه الطريقة في التعريف بمرض الموت غير مناسبة لبعض الأمراض المزمنة ولهذا تراءى لبعض القرارات تمييز المرض المزمن الذي يشتد فيلحق بمرض الموت من ذلك القرار عدد 269 مؤرخ في 27 جوان 2005 (نشرية 2005، ص. 149).
وحيث يرى شراح القانون إنه إذا امتد المرض ومرت عليه سنة والمريض على حال واحدة كان بحكم الصحيح وتكون تصرفاته تصرفات الصحيح ما لم يشتد مرضه ويتغير حاله ويموت قبل سنة فيعد حاله اعتبار من وقت التغير إلى الوفاة مرض موت.[19]
ب- شرط المحاباة عند البيع لغير الوارث
32. نص المشرع على مرض الموت كسبب من أسباب البطلان في موضعين من مجلة الإلتزامات والعقود : عند تنظيمه عقد البيع (الفصل 565) ولإسقاط الدين (354 و355).
عندما تتطرق النصوص إلى مرض الموت فهي تميز عملية البيع أو إسقاط الدين الواقعة مع أحد من الأشخاص المؤهلين إلى اكتساب صفة الوارث وعملية البيع أو إسقاط الدين الواقعة مع غير الوارث. وتتميز أحكام مرض الموت المتعلقة بالبيع بالإحالة إلى أحكام الإسقاط. ومن ناحية شكلية فإن أحكام البيع في مرض الموت تضمنت فصلا واحدا منقسم إلى فقرتين كل الأولى مخصصة للبيع للوارث والثانية مخصصة للبيع لغير الوارث، في حين أن أحكام الإسقاط في مرض الموت قسمت إلى فصلين مختلفين خصص كل واحد منهما لشق من المتعاقدين الوارث وغير الوارث.
33. تطرح إشكالية في تأويل أحكام البيع. فالمشرع خصص فصلا واحد (565 م.إ.ع) تضمن فقرتين مختلفتين. الأولى تخص البيع الذي يجرى مع الوارث مع التنصيص على أن البطلان كجزاء للعقد الواقع في مرض الموت إنما هو بسبب أن البيع صدر لغاية محاباة الوارث في حين أنه بخصوص البيع المجرى مع غير الوارث سكت النص عن مثل هذا الشرط. فكان السؤال المطروح هو هل يجب التحقق من شرط المحاباة للتصريح ببطلان البيع المجرى في مرض الموت مع غير الوارث.
34. أصدرت محكمة التعقيب قرارا حديثا يعتبر أن البيع لغير الوارث الواقع في مرض الموت يكون باطلا سواء كانت الغاية منه المحاباة أم لا.
وحيث انه من جهة أخرى فإن المحكمة أساءت تطبيق الفصلين 565 و355 من م.إ.ع لما اعتبرت انه لا بد من إبراز توفر ركن المحاباة ليتسنى إبطال البيع الواقع أثناء مرض الموت سواء وقع لوارث أو لغير وارث والحال أن الفصل 355 م.إ.ع الذي يحيل إليه الفصل 565 م.إ.ع لا يشترط المحاباة إلا عند التعاقد مع الوارث ولم ينص على ذلك بالنسبة لغير الوارث لإسلامية المرجع من مثل هذا النص ومن المعلوم أن الشرع الإسلامي جعل الشخص الذي أيقن مرضه هو مرض موته يكون في تصرفه في أملاكه لا بنية إدارة الحي العادي لأملاكه بل بقصد التصرف فيها لما بعد مماته.
ومن البديهي في الفقه الإسلامي أن تصرف الشخص لما بعد وفاته لا يكون بالنسبة لغير الوارث إلا في ثلث التركة وما زاد عن ذلك فلا حق له في التصرف فيه بل محكمة أحكام الميراث المقدسة في الدين باعتبارها من أحكام الحدود المدنية ولذا فإن التفويت لما بعد الموت لغير الوارث سواء توفرت نية المحاباة أو انعدمت فإن ذلك التفويت لا يجوز فيما زاد على ثلث التركة وهو كل ما يمكن للشخص التصرف فيه لما بعد موته ويكفي فقط أن يثبت أن ذلك التفويت حصل خلال مرض الموت. خلافا للبيع الحاصل للوارث فالأصل شرعا أن لا وصية لوارث وإذا تبين أن التفويت الحاصل للوارث كان في الظاهر بيعا صحيحا لكن في الواقع هو تبرع أو وصية وتجلت فيه المحاباة وكان القصد هو تبرع أو وصية وتجلت المحاباة وكان القصد فقط تغيير قواعد الميراث الآمرة في الشرع الإسلامي فإن ذلك البيع يبطل ويرجع المبيع إلى التركة ليقسم حسب القواعد الآمرة للميراث[20].
وحيث أن البيع الحالي يكفي لإبطاله ثبوت حصوله في مرض الموت وتجاوز قيمته لثلث قيمة تركة البائع ولما درجت محكمة الحكم المنتقد على غير ذلك باشتراطها لركن المحاباة رغم كونه صادرا لغير وارث فقط اشترطت ما لم يشترطه الفصل 354 م.إ.ع. وما لم يشترطه جذور ذلك النص في الفقه الإسلامي.
35. ذكر الأستاذ نذير بن عمو أن هذا القرار يبدو مخالفا لفقه قضاء سابق اعتبر أن البيع لغير الوارث لا يكون صحيحا إذا انطوى هو أيضا على المحاباة. وهذا التأويل "يتماشى حسب رأيه مع الغايات الأولية التي يسعى تحقيها من منع البيع في مرض الموت. فإذا كانت الإلتزامات متعادلة لا شيء يبرر إخضاع العقد للنظام القانوني للوصية. لذلك فإنه في كل مرة يخرج مال من ذمة المريض مرض الموت وتدخل عوضا عنه قيمة معادلة غابت علة تقييد تصرفه سواء أكان ذلك البيع لوارث أو لغير وارث"[21].
36. حتى إذا لم نلتفت إلى الغاية التي يسعى المشرع إلى تحقيقها من منع البيع في مرض الموت وبغض النظر عن أحكام الفقه الإسلامي ذات العلاقة، فإننا نعتقد أن التقيد بالنص يفترض اشتراط توفر المحاباة كشرط قانوني لدعوى البطلان. والحجج التي يمكن أن نسوقها للتدليل على ذلك ذات طبيعة مختلفة فهي عقلية من جهة ولغوية من جهة أخرى :
فقد أحال المشرع في البيع في مرض الموت إلى أحكام الإسقاط في مرض الموت. والإسقاط هو عمل أحادي الجانب منطوي على عمل تبرع. فلا معنى لأن يحيل المشرع إلى أحكام الإسقاط إذا لم يكن البيع منطويا على محاباة. ومن جهة أخرى فقد أحال المشرع من أحكام البيع إلى أحكام الإسقاط ولا يمكنه أن يعكس الآية فيحيل من أحكام الإسقاط لأحكام البيع والسبب هو أن البيع يمكن أن يكون بعوض بقيمة عادلة ويمكن أن يكون بعوض بقيمة غير عادلة أما الإسقاط فلا يكون إلا بقيمة غير عادلة.
حسب رأينا فإن الفقرة الثانية من الفصل 365 ليست منفصلة عن الفقرة الأولى من نفس الفصل بل هي امتداد لها. فإذا وردت صياغتها مقتضبة بالمقارنة مع الفقرة الأولى خاصة بالسكوت عن شرط المحاباة فذلك من باب ضرورة عدم تكرار القول.
القسم الثاني : آثار العقد
نستعرض في هذا القسم الثاني بعض القرارات المتصلة بقواعد تفسير العقد (الفقرة الأولى) وبتحديد مضمون الإلتزام (الفقرة الثانية) وبجزاء الإخلال بالإلتزامات التعاقدية (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى : تفسير العقد
أ- التفسير الضيق
37. إذا نص عقد الكراء بصورة مطلقة على منع كل تغيير بالمكرى بدون ترخيص من المكري وإلا انفسخ العقد فهل يحول ذلك دون القيام بأي إحداث دون الحاجة إلى تمييز بين نوع الإحداثات المجراة ؟ قد يميل المكتري إلى القول بأن المكري علم بالإحداثات وهو تسامح بخصوصها أو صادق عليها ضمنيا إلا أن مثل هذا الموقف ينطوي على إقرار ضمني بأن المبدا هو عدم جواز القيام بالإحداثات فيكون موقفه الدفاعي هشا لأنه قد يواجه بأن القبول الضمني غير ثابت[22]. فمصلحته تقتضي أن يضيق من نطاق المنع.
38. نظرت محكمة التعقيب في السؤال المطروح بمناسبة قرارين توصلا إلى نفس النتيجة لكن بطريقة تفسيرية مختلفة.
نذكر أولا القرار عدد 18594 مؤرخ في 24 جوان 2002 (نشرية 2002 ص. 44)
حيث اقتضى الفصل 120 من م.إ.ع انه لا يصح الشرط الذي لا فائدة فيه لمشترطه أو لغيره أو بالنسبة لموضوع العقد كما اقتضى الفصل 530 من ذات المجلة أن العبارة وإن أطلقت لا تحمل إلا على ما قصد التعاقد فيه أو الإلزام به.
وحيث يؤخذ من مدلول هذين النصين أن اعتماد محكمة الحكم المطعون فيه لشرط عدم تغيير المكرى تحت طائلة جزاء الفسخ على إطلاقه دون مراعاة ما إذا كانت تنجر عنه فائدة أو مضرة للمتمسك به ينطوي على إساءة في تأويل ذينك النصين يتنافى مع ما يهدف إليه العقد من وراء تنفيذه باستعمال المكرى دون إفراط أو تعد حسبما أعدته له طبيعته وفقا للفصل 767 م.إ.ع. وهو المعيار الذي يتعين اعتماده عند ترتيب جزاء إخلال المكتري بالمنع عليه تغيير المكرى دون إذن من المالك وبالتالي فإذا نص عقد التسويغ على أن كل تغيير بالمكرى موجب للفسخ دون استثناء أو أدنى تمييز بين الإحداثات الجائزة قانونا التي يقوم لها المكتري وفقا للتقسيم الذي اعتمده في شأنها الفصل 786 من م.إ.ع إلى ضرورية ونافعة وتحسينية والإحدثات التي تغير من طبيعة المكرى أو تلحق به ضررا.
جاء في القرار الثاني عدد 4185 مؤرخ في 22 سبتمبر 2005 (نشرية 2005، ص. 141)
وحيث أن اعتماد محكمة الحكم المطعون فيه بصورة مطلقة منع كل تغيير على المكرى وعدم تمييزها بين ما هو نافع منها ويزيد من قيمة المكرى وما هو مضر وينطوي على تغيير في طبيعة المكرى وذلك بالنظر إلى طبيعة الإحداثات المتنازع فيها وهذا من قبيل المغالاة التي تتنافى وجوهر ما قصد إليه الطرفان حقيقة من اسبتعادهما لكل شرط لا فائدة منه لأي منهما وينطوي على هدر لسلامة المعاملات.
39. يتميز القرار الأول عن الثاني بتعليله بالرجوع إلى نصوص قانونية. وهو من هذه الناحية جدير بالإهتمام لأن دور محكمة التعقيب في مراقبة تطبيق القانون يستدعي منها الرجوع إلى القانون لإجراء مراقبتها ولا يكفي اعتمادها أسلوبا تقريريا مثل ما صدر منها في القرار الثاني. فالتعليق الذي نقوم به حول هذين القرارين يكون في اتجاهين : تقييم الأسانيد القانونية المعتمدة في القرار الأول ثم محاولة تأصيل القرار الثاني في سند من القانون.
40. رجعت محكمة التعقيب في القرار الأول إلى الفصل 120 من مجلة الإلتزامات والعقود المتعلق بأحكام الشرط والفصل 530 من نفس المجلة المتضمن قاعدة من قواعد تفسير العقود.
يبدو الفصل 120 أجنبيا عن المسألة القانونية المطروحة وهو ينطوي على خلط بين الشرط بمعناه التقني كما عرفه الفصل [23]116 والإشتراط الذي يحدد مضمون الإلتزام على معنى الفصل 23 من مجلة الإلتزامات والعقود[24]. أما اعتماد الفصل 530 فهو يبدو في صميم الموضوع بما أن المسالة تتعلق بتفسير بند من بنود التعاقد.
41. إذا ما أردنا أن نعطي لاعتماد المحكمة الفصل 120 معنى مفيدا في المسألة المطروحة فإنه يمكننا أن نقول أنها ترى فيه تعبير عن قاعدة قانونية أعم تمنع الأطراف الاشتراط بينهم على ما ليست لهم فيه مصلحة لهم أو بالنسبة لموضوع العقد. فالقياس هنا ضمني في تفكير المحكمة وما يتيحه هو اشتراك الشرط والإشتراط في مصدرهما الإرادي.
42. يبدو الفصل 530 م.إ.ع أكثر تلاؤما مع موضوع النزاع. فهو يقتضي أن "العبارة وإن أطلقت لا تحمل إلا على ما قصد التعاقد فيه أو الإلتزام به". يمكن هذا النص من "تضييق بعض البنود العامة" مثل ما ذكره سامي الجربي. "فكثيرا ما يرد البند التعاقدي معمما، كأن يلزم المسوغ الكاري بالقيام الإصلاحات جميعا أو أن يذكر أن العين المكراة تم تسليمها على حالة حسنة والحال أنها تحتاج لبعض التحسينات"[25]. إن الرجوع إلى الفصل 530 لا يكون من ناحية منطقية عاملا بمعزل عن الرجوع إلى طبيعة العقد. فإذا كان البند التعاقدي موضوع النزاع يلزم المكتري بعدم القيام بإحداثات بالمكرى دون ترخيص فإنه بالضرورة يتحدث عن التزامات المكتري ولهذا رأت محكمة التعقيب ضرورة أن تقيم ربطا مع الفصل 767 من مجلة الإلتزامات والعقود الذي يحدد على نحو عام التزامات المكتري. فهو "ملزم بأداء الكراء وحفظ ما اكتراه بدون إفراط بلا تعد حسبما أعدته له طبيعته أو العقد". ترى محكمة التعقيب أن تفسير الشرط التعاقدي بمنع الإحداثات يجب أن يكون بالرجوع إلى الإلتزام القانوني المحمول على المكتري بحفظ المكرى واستعماله بدون إفراط ولا تعد حسبما أعدته له طبيعته[26]. إن منع الإحداثات لا يفيد بالضرورة منع إحداث يقتضيه استعمال المكرى. فالمنع يبدأ متى كان ثمة إفراط أو تعد.
43. قد يتجه البعض إلى نقد مثل هذا التوجه في تفسير الشرط التعاقدي. فقد يذهب العقد إلى تقييد حرية المكتري في إجراء الإحداثات وجعلها مشروطة بالحصول على الموافقة المسبقة للمكري وذلك حتى يتمكن هذا الأخير من إجراء مراقبة قبلية لخطر التعدي أو الإفراط. فالمكتري الذي يجري الإحداثات دون الحصول على الموافقة المسبقة من المكتري يكون في هذه الحالة قد مس بحق المكري في المراقبة وهو حق مختلف عن الحق في منع الإحداثات المنطوية على إفراط أو تعد. بهذا المعنى يكون للمكري نفع ومصلحة في طلب اشتراط الموافقة على كل الإحداثات مهما كانت طبيعتها وذلك كوجه من وجوه مراقبة الإستعمال. فيتغير معنى الشرط التعاقدي حسب هذا التأويل. فيكون المكتري في هذه الحالة مضطرا إلى طلب الموافقة على الإحداثات وإذا جوبه طلب الرخصة بالرفض فإنه يمكن أن يجريها تحت مسؤوليته إذا كانت غير منطوية على إفراط أو تعد.
44. ميزت محكمة التعقيب الإحداثات المنطوية على إفراط وتعد وفقا للتقسيم الذي اعتمده في شأنها الفصل 786 من م.إ.ع مميزا بين الإحداثات الضرورية والنافعة والتحسينية والإحداثات التي تغير من طبيعة المكرى أو تلحق به ضررا.
كانت محكمة التعقيب واعية بأن الفصل 786 لا ينطبق مباشرة على النزاع المطروح عليها لتفسير الشرط التعاقدي التي هي بصدده[27] إنما هي رجعت إليه فيما تضمنه من تمييز ضمني بين طبيعة الإحداثات التي يمكن للمكتري القيام بها فمنها ما هو "لازم" (ضروري حسب تعبير محكمة التعقيب) ومنها ما هو "نافع" ومن ما هو "تحسيني". فكل هذه الإحداثات حسب محكمة التعقيب لا تنطوي على إفراط أو تعد وهي جائزة في القانون العام وهي غير مشمولة بالمنع الوارد بالعقد الذي ينحصر في الإحداثات التي تغير من طبيعة المكرى أو تلحق به ضررا. بهذا المعنى الضيق للشرط التعاقدي ترى محكمة التعقيب أن العقد لم يتضمن أي شرط مخالف للقانون العام وهي من هنا أفرغته من كل معنى تعاقدي خاص مختلف عن المعنى المنجر عن تطبيق قواعد القانونية لعقد الكراء.
45. قد لا نتفق كليا مع محكمة التعقيب فيما ذهبت إليه من تفسير الشرط التعاقدي. لأنه بهذا المعنى ورغما عن منع الإحداثات بدون موافقة تكون للمكتري حقوق على المكري الذي يكون مطالبا بأن يؤدي للمكتري المصاريف اللازمة لحفظ المكرى أو قيمة المصاريف النافعة والحال انه اشترط موافقته[28]. فشرط منع المكتري من إجراء الإحداثات قد يقصد منه تحديد التزامات المكري من ناحية ترجيع المصاريف التي قد تثقل كاهله دون موافقته.
لسنا ندري ماذا يكون موقف محكمة التعقيب لو أن المكتري طلب التعويض عن الإحداثات التي أنجزها بدون موافقة المكري. فهل تقيم تمييزا بين الخطا المستمد من الإحداثات بدون ترخيص والتي تكون موجبة او غير موجبة للفسخ وبين الإحداثات المجراة بدون ترخيص والتي لا يحق فيها للمكتري طلب أي تعويض. بطبيعة الحال فإن حدود النزاع المعروض على محكمة التعقيب يمنعها أن تجيب عن كل الأسئلة المتعلقة بنظام الإحداثات المجراة على المكرى.
46. إن الخلاصة التي يمكن أن نستخلصها من موقف محكمة التعقيب في القرار الأول هو أنه عند تحرير العقد لا يجب على الأطراف الإقتصار على صياغة شروطهم على نحو مطلق كمنع الإحداثات بصيغة العموم بل يجب عليهم تخصيص الإحداثات الممنوعة نوعا بنوع.
47. توصل القرار الثاني لمحكمة التعقيب إلى نفس النتيجة السابقة أي تضييق نطاق الشرط التعاقدي بالرغم من عموميته إلا أنه لم يفصح عن القاعدة التشريعية التي اعتمدها. فقد عابت محكمة التعقيب على محكمة الأصل "عدم تمييزها بين ما هو نافع منها ويزيد من قيمة المكرى وما هو مضر وينطوي على تغيير في طبيعة المكرى وذلك بالنظر إلى طبيعة الإحداثات المتنازع فيها وهذا من قبيل المغالاة التي تتنافى وجوهر ما قصد إليه الطرفان حقيقة من اسبتعادهما لكل شرط لا فائدة منه لأي منهما وينطوي على هدر لسلامة.....
48. نجد في هذا التعليل صدى للتمييز السابق الذي أشارت إليه محكمة التعقيب في القرار الأول بين الإحداثات النافعة والإحداثات المضرة المنطوية على تغيير في طبيعة المكرى كما نجد صدى للفصل 530 من مجلة الإلتزامات والعقود عندما تعيب محكمة التعقيب على قضاة الأصل مغالاتهم بأن أعطوا العبارة المستعملة في العقد معنى مطلقا تجاوز الحد المقصود من التعاقد. كما نجد صدى لقاعدة 120 من مجلة الإلتزامات والعقود الذي تحول دون اشتراط شرط لا فائدة منه لأي من المتعاقدين. في حاصل القول يلتقي القراران حول النتيجة القانونية وحول مستنداتها إلا أن القرار الأول يبدو أدق تحييثا وتعليلا.
ب- التفسير اللغوي (قرار عدد 23596 بتاريخ 5 جوان 2003 نشرية 2003 ص. 68)
49. يرمي الطعن إلى نقد محكمة الأصل وقوفها عند الألفاظ وعدم أخذها بالمقاصد الصحيحة لأن العرف جرى على اعتبار مكب الماء يكون دوما خاصا بالزياتين كما أن المحكمة لم تعر الواقع المادي للعقار أي اهتمام.
لما كانت عبارة كتب الصدقة واضحة وصريحة في خصوص تحديد المتصدق (وضع الحدود) به فإنها لا تحتاج إلى تفسيرها فلا يجوز للمحكمة أن تنحرف عن معناها الظاهر إلى معنى آخر استنادا إلى ما جرى عليه العرف كما يريد الطاعنون لآن الإنحراف بالمعنى الواضح تحريف له ومسح وتشويه..
الفقرة الثانية : تحديد مضمون الإلتزام
أ- ثمن الإيجار الرمزي في عقود التزويد بالمحروقات (قرار عدد 21767 مؤرخ في 9 جويلية 2003 نشرية 2003 ص. 72)
50. دعيت محكمة التعقيب إلى النظر فيما إذا كانت محكمة الناحية مختصة حكميا للنظر في دعوى فسخ عقد أبرم بين شركة توزيع محروقات بالجملة وموزع بالتفصيل يقتضي تسويغ هذا الأخير المعدات اللازمة للتوزيع لمدة 20 سنة بدينار رمزي على شرط التزامه بالتزود منها بكمية دنيا من المواد وفي صورة الإخلال بهذا الشرط ينفسخ العقد استعمال المعدات. كانت الدعوى رفعت لدى محكمة الناحية ولم تطرح مسألة الإختصاص إلا لدى محكمة الإستناف التي أقرت الحكم الإبتدائي.
51. نقضت محكمة التعقيب الحكم الإستئنافي معللة حكمها كما يلي :
حيث أجمعت كل التشاريع على تعريف عقد الإيجار بأنه عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الإنتفاع بشيء لمدة معينة لقاء اجر معلوم. وما يميز عقد الإيجار عن العقود الأخرى هو انه يقع على منفعة الشيء المؤجر.
وحيث لا ينطبق الشرح أعلاه على عقد البيع بالتفصيل سند الدعوى الحالية المبينة بعض بنوده لكونه عقد مركب يجمع بين الإيجار ويقع على المعدات والآلات وبين مجهود المكلف بالبيع والتسويغ والتزامه بالحد الأدنى من التزود من المالكة دون غيرها والعمل كامل الوقت بدون انقطاع وهي التزامات يستحيل تقديرها.
وحيث أن أساس التعاقد الواضح من خلال بنوده هو إعادة بيع منتوجات مالكة المحطة وبذل مجهود في ذلك مقابل عمولة والإلتزام بتصريف وبيع كمية دنيا من المالكة دون غيرها.
وحيث يستشف ذلك من معين الكراء الرمزي وهو دينار واحد في السنة الذي لا يمكن أن يكون الهدف من التعاقد وإنما ترمي المالكة من ذلك إلى تصريف وتوزيع بضاعتها بواسطة وكيل يتولى البيع بالتفصيل.
وحيث أن القول بعد ذلك بان العقد هو كراء يرجع معين الكراء السنوي لاختصاص قاضي الناحية هو تعليل ضعيف وتفسير يخرج عن مقصد المتعاقدين ونيتهما المشتركة.
52. قام تمشي محكمة التعقيب في هذا القرار على وصف العقد بكونه مركبا بين التزامين : فهو تضمن التزاما بتسويغ محطة توزيع محروقات لمدة طويلة مقابل دينار رمزي في كل سنة والتزاما بالتزود بكمية دنيا من المحروقات. في تقدير محكمة التعقيب فإن الدينار الرمزي ليس هو ثمن التسويغ بل أن الثمن هو الإلتزام بفتح المحطة بصورة مستمرة بدون انقطاع والتزود بكمية دنيا من المحروقات وهذا يجعل الثمن غير مقدر وهو ما يبرر عدم اختصاص محكمة الناحية.
53. إن القول بأن العقد مركبا كان يحمل إلى وصف كل التزام على حدة. فمن جهة هناك عقد تسويغ ومن جهة أخرى هناك عقد إطاري بالبيع والشراء.
54. هل كان بإمكان محكمة التعقيب إعادة وصف العقد الذي تلتزم فيه شركة توزيع المحروقات بالجملة بتمكين الموزع من استغلال تجهيزات المحطة بكونه ليس عقد إيجار بل عقد عارية استعمال؟
يختلف عقد عارية الإستعمال عن عقد الإيجار بوجود العوض في الأول وانعدام العوض في الثاني[29]. وعلى هذا الأساس قد يؤدي بنا القول بأن الإتفاق على ثمن رمزي هو بمثابة الإتفاق على انعدام العوض وبالتالي فإن العقد المبرم ليس عقد إيجار بل هو عقد عارية استعمال.
55. حتى في هذه الحالة قد يصعب تكييف العقد بعارية استعمال لأن هذا العقد هو بالأساس عقد تبرع. فموزعي المحروقات بالتفصيل الذين يلتزمون بالتزود الحصري لدى الشركات البترولية والذين يستعملون تجهيزات تضعها على ذمتهم بدون مقابل فإنهم لا يدفعون المقابل إلا في الظاهر. فالعقد هو بعوض. فبائع التفصيل يدفع في الحقيقة المقابل عند شرائه المحروقات. فهل يجوز في هذه الحالة القول بأن العقد هو حقيقة عارية استعمال ؟
56. يبدو في صورة الحال ان طرفي العقد أرادا إخضاع علاقتهما بخصوص استعمال التجهيزات إلى أحكام الإيجار لا أحكام عارية الإستعمال التي هي في الأساس عقد تبرع وقد احترمت المحكمة هذه الإرادة ولم تر في الثمن الرمزي ثمنا تافها مؤديا إلى البطلان المطلق لانعدام السبب. إلا أنها اعتبرت أن هذا الإيجار مرتبط بالإلتزام بالتزود وهو التزام غير محدد وهو يتبعه (لأنه فرع) في نظامه القانوني عندما يتعلق الأمر بتحديد المحكمة المختصة للنظر في دعوى الفسخ[30].
ب- واجب تنفيذ العقد بمنتهى الأمانة (قرار عدد 7461 مؤرخ في 4 أفريل 2005 نشرية 2005، ص. 67)
57. هل يكون المكري مسؤولا عن الخسائر التي لحقت بالمكتري من جراء ضياع متواصل لكميات من المحروقات بفعل تآكل الخزانات المدفونة تحت الأرض منذ مدة خمسة عشر سنة دون أي إصلاح ؟
قضت محكمة البداية بعدم سماع الدعوى بناء على أن واجب الصيانة محمول على المكتري الذي كان عليه إعلام المسوغ بالإصلاحات الضرورية وأنه بمواصلة استغلال المكرى لمدة تفوق الخمسة عشر عاما دون تسجيل أي احتراز يعد قرينة على انعدام الخسارة. تم إقرار الحكم الإبتدائي لدى الإستئناف إلا أن محكمة التعقيب نقضت الحكم الإستئنافي بناء على عدم تقصي المحكمة أسباب الضرر إن كانت ناجمة عن إهمال في واجب الصيانة من قبل المتسوغ أم ناتج عن تآكل عادي للمعدات.
قررت محكمة الإحالة رفض الدعوى بناء على أن المضرة المدعى بها قائمة على أساس تعاقدي بما يفضي إلى استبعاد تطبيق أحكام الفصل 96 من م.إ.ع. وإعمال قواعد المسؤولية العقدية طبقا للقانون وتأسيسا على نتيجة الإختبار التي دلت على أن الخزان عدد 2 ظهر به ثقب بعد التوقف عن استعماله وأن الخزان عدد 3 سليم أما الخزان عدد 1 فيوجد به ثقب صغير منذ حوالي سنة 1985 إلا أن الطاعن لا يمسك دفاتر حسابية دقيقة صالحة للإعتماد وهو لم يواف الخبير المنتدب بالوثائق المطلوبة وبالتالي فإن الدعوى مجردة.
تعقب المدعي الحكم الإستئنافي على أساس خرق أحكام الفصل 278 من م.إ.ع إذ أثبت الإختبار أن الخزانات تآكلت وصارت غير صالحة للإستعمال كما أثبت أهمية الخسارة وما فات من ربح.
58. فاجأت محكمة التعقيب الجميع لما رفضت الطعن مكتفية بتغيير سند الحكم الإستئنافي.
إن واجب تنفيذ الإلتزام التعاقدي بمنتهى الأمانة كما دل إلى ذلك الفصل 243 من م.إ.ع. يفرض على المنتفع بالوكالة الحرة في استغلال مادة حساسة وخطرة وهي مادة الوقود والمحروقات أن يتسربل بالحذر والحيطة الدائمين كأن يتولى بنفسه الإستعانة بذوي الخبرة في الإبان قبل أن يزداد الفتق اتساعا كل ذلك تحت سمع وبصر القضاء الذي يسعفه بالأذون اللازمة ويرشده إلى المختصين مع حفظ حقوقه كاملة من حيث المصاريف والنفقات أما الخلود إلى الإستقالة والسلبية فهو أمر غير مقبول لأن الأحكام القانونية تقتضي منه إعلام المعقب ضده بكل الإخلالات التي حصلت بالخزانات ومنحها أجلا للقيام بذلك تحت نظر أهل الإختصاص وأن النص القانوني الذي يشير إلى أن هذه الإصلاحات يجب أن تتم من قبل المالكة لا يمنع من إتباع الإجراءات القانونية المذكورة آنفا ولا تعارض بينهما مطلقا. فلا يمكن للطاعن أن يستفيد من تقصيره.
59. استبدلت محكمة التعقيب السند الذي أسست عليه محكمة الإستئناف لرفض الدعوى. ففي حين اعتبرت محكمة الأصل أن الطالب لم يثبت العلاقة السببية بين الفعل الضار والضرر (الخزان عدد 2 ظهر به ثقب بعد التوقف عن استعماله) أو الفعل الضار (الخزان عدد 3 سليم) أو الضرر (الخزان عدد 1 يوجد به ثقب صغير منذ حوالي سنة 1985 إلا أن الطاعن لا يمسك دفاتر حسابية دقيقة صالحة للإعتماد) فإن محكمة التعقيب ردت بأن الطالب اقترف خطأ تعاقديا بعدم إلتزامه بالأمانة بما يزول معه حقه في مسائلة معاقده. والأمانة تقتضي من المكتري أن يعلم المكري بالإخلالات التي بدت في الخزانات حتى يقوم بإصلاحها ومتى لم يقم بالإعلام فهو لا يمكنه ان يستفيد من تقصيره. يطرح القرار التعقيبي إشكاليات على مستوى إجرائي إلا أن هذا لا يعنينا في هذا المقام[31] بل ما يهمنا هنا ما استقر عليه من حل في الأصل بكون أن المستأجر ملزم بإعلام المؤجر بالعيوب حتى يحفظ حقه في التعويض ومتى لم يفعل فهو قد أخل بواجب الأمانة ولا يستحق تعويضا عن الضرر الذي يلحقه.
60. أسست محكمة التعقيب واجب إعلام المؤجر بالعيوب على الفصل 243 من مجلة الإلتزامات وهي أشارت إلى وجود أحكام قانونية تقتضي منه (المستأجر) إعلام المعقب ضده (المؤجر) بكل الإخلالات التي حصلت بالخزانات
لم تفصح محكمة التعقيب عن الأحكام الموجبة للإعلام وكان يمكنها الإحالة إلى الفصل 778 م.إ.ع الذي اقتضى انه "على المستأجر للمؤجر جبر ما تسبب فيه من الخسارة إن لم يعلمه حالا بجميع ما يحدث في العين المأجورة مما يلزم المؤجر مباشرته سواء كان ذلك للزوم ترميمات أكيدة أو لظهور عيب غير متوقع بها ...".
صحيح أن الفصل 778 يتطرق مباشرة إلى مسؤولية المكتري إزاء المكري من جراء عدم إعلامه بالعيوب التي تستدعي القيام بإلاصلاح أو الترميم وهو لا ينص صراحة على عدم استحقاق المكتري تعويضا عن الأضرار التي تلحقه من جراء عيوب العين المأجورة التي لم يقع الإعلام عنها إلا أن العلاقة بين المسالتين لا تخفي علينا. فالإعلام بالعيوب هو التزام محمول على المكتري وهو يؤدي في الآن نفسه إلى مسؤوليته عن الأضرار التي تلحقه هو شخصيا من جراء تلك العيوب ثم مسؤوليته إزاء المكتري من جراء تفاقم الضرر وقد سبق لفقه القضاء الفرنسي أن نفي مسؤولية المؤجر عن العيوب غير المصرح بها أو قسمة المسؤولية بينه وبين المستأجر[32].
61. بقي علينا أن نفسر لماذا أسست محكمة التعقيب قرارها على نص عام وليس على نص خاص وهل أن السندين مختلفان بينهما.
يعتبر الفقهاء أن الواجب المحمول على المستأجر بإعلام المؤجر بعيوب المبيع التي تستلزم إصلاحات هو تطبيق خاص لواجب الأمانة. فالأمانة في تنفيذ العقود المكرس في الفصل 243 م.إ.ع. هي مبدا سلوكي عام يستنبط منه المشرع أو القاضي، حسب الحالات، تطبيقات خاصة تقتضيها طبيعة العقد. وهنا يكون المستأجر ملزما بأن يعلم المؤجر حتى لا يعسر عليه تنفيذ الإلتزام وهو ما تقتضيه الأمانة[33]. وعلى هذا النحو نفهم لماذا لم تكن محكمة التعقيب مخطئة في تطبيق القانون لما عابت على المستأجر "خلوده إلى الإستقالة والسلبية" وعدم تسربله بالحذر والحيطة الدائمين حتى يتولى بنفسه الإستعانة بذوي الخبرة في الإبان قبل أن يزداد الفتق اتساعا" ووجود أحكام تقتضي منه إعلام المعقب ضده بكل الإخلالات التي حصلت بالخزانات"
ت- واجب النصح والإرشاد (قرار عدد 2713 مؤرخ في 3 أكتوبر 2005 نشرية 2005، ص. 21)
62. تتعلق الدعوى بمسؤولية مهندس تولى دراسة الهندسة المعمارية والخرسانة المسلحة وإدارة أشغال البناء ومراقبتها إلا تبين بعد الإنجاز علو الدهليز الذي لا يمكن من الدخول والخروج من المحلات إلا بواسطة مدارج لا يمكن إحداثها في الطريق العام. قضت محكمة البداية لفائدة الدعوى بتغريم المهندس إلا أن محكمة الإستئناف نقضت الحكم وقضت مجددا برفض الدعوى جزئيا. لدى التعقيب طعنت المدعية بقولها بأن المعقب ضده بوصفه مهندسا معماريا التزم بإعداد الأمثلة الهندسية والإشراف على إنجاز الأشغال وإدارتها ومراقبتها وهو ملزم بإسداء النصح وتحقيق نتيجة ولا ينال من ذلك إدعاءه بكون المعقبة موافقة وأصرت على علو سقف الدهليز ب35 صم فوق الرصيف مما أدى إلى عدم صلوحية الطابق السفلي المعد للإستغلال التجاري وهو ما انتهت إليه محكمة الدرجة الأولى على صواب وكان بإمكان المعقب ضده بوصفه فنيا أن يرفض انجاز ما أصرت عليه المعقبة حسب ادعائه وهو ملزم بان يثبت ذلك كتابة حتى يتفصى من تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه ولا يمكن الأخذ بالشهادة في مسائل فنية علاوة على أن الشهود الواقع سماعهم سبق التجريح فيهم..
63. نقضت محكمة التعقيب الحكم المطعون فيه معللة حكمها كما يلي :
"المسألة المتنازع فيها تتعلق بارتفاع مستوى الطابق الأرضي وعمق الحفريات الواجب القيام بها وهذه المسألة يمكن التحقق منها بالرجوع إلى الأمثلة الهندسية ومطابقتها بالأعمال المنجزة وعلاوة على ذلك فإنه من المقرر فقها وقضاء أن الفنيين ملزمون بإسداء النصح وواجب الإرشاد لحرفائهم ولا يمكنهم التفصي من المسؤولية والتحلل منها على سند من القول أن الحريف موافق على الإنجاز بتلك الطريقة وهو ما خالفته محكمة الحكم المطعون فيه معتبرة أن المسالة الفنية واقعة مادية تثبت بجميع وسائل الإثبات وهو ما يعد تعليل غير مقنع وقصورا في التسبيب يوهن الحكم ويعرضه للنقض".
64. مرة أخرى نجد أنفسنا أمام حكم مبدئي غير مؤسس على سند تشريعي صريح. فقد اكتفت محكمة التعقيب بالتأكيد أنه من المقرر فقها وقضاء بأن الفنيين ملزمون بإسداء النصح وواجب الإرشاد لحرفائهم ولا يمكنهم التفصي من المسؤولية على أساس أن الحريف موافق.
65. يخص هذا القرار الإلتزامات المحمولة على الفنيين. وفي صورة الحال كان الفني مهندسا تولى دراسة الهندسة المعمارية والخرسانة المسلحة وإدارة أشغال البناء ومراقبتها. والقاعدة التي كرستها محكمة التعقيب قد تنطبق على أي فني آخر يسدي خدمات ذات طبيعة ذهنية (كمكاتب الدراسات والمهندس المعماري والطبيب، والمحامي، الخبير المحاسب..) أو مادية مرتبطة بالخدمة الذهنية (كالطبيب الجراح).
66. واجبي النصح conseil والإرشاد information هما واجبين مختلفين. فالإرشاد يعني مد الحريف بالمعلومات التي يحتاجها في حين أن النصح يقتضي إعانته على اتخاذ القرار.
67. لم تحدد محكمة التعقيب مصدر الإلتزام المحمول على الفني بالنصح والإرشاد وهي أصلا لم تحدد طبيعة العقد المرتبط بذلك الإلتزام وهو عقد إجارة على الصنع محكوم بأحكام الفصل 866 وما بعده من مجلة الإلتزامات والعقود.
نص الفصل 874 من مجلة الإلتزامات والعقود على أن أجير الصنع يضمن ما كان في عمله من عيب ونقصان. وأضاف الفصل 877 أن الضمان المقرر بالفصل 874 يسقط إذا ظهر أن عيب المصنوع نشأ عن إذن صريح صدر من المستأجر مع عدم موافقة المقاطع أو الأجير له. كان يمكن لمحكمة التعقيب ان تستند على هذا النص الأخير لتعليل حكمها. فالمهندس يمكنه أن يتفصى من المسؤولية إذا كان مرد العيب إذن صريح من المستأجر إلا أن ذلك لا يعفي أجير الصنع الذي عليه بالإعتراض وعدم الموافقة أي بعبارة أخرى يجب أن يقوم بتحذير المالك. لم تنتبه محكمة التعقيب إلى الفرق بين واجب النصح وواجب التحذير. فالنصح يرشد إلى اتخاذ القرار إلا أن التحذير يرشد إلى النتائج الوخيمة التي يمكن أن تلحق صاحب القرار من القرار الذي يعتزم اتخاذه[34].
68. بقيت مسالة لم تبت فيها محكمة التعقيب وهي وسيلة إثبات الوفاء بواجب النصح والإرشاد (وقد نقول أيضا التحذير). جاء في مستندات الطعن ان المهندس ملزم بان يثبت ذلك كتابة حتى يتفصى من تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه ولا يمكن الأخذ بالشهادة في مسائل فنية. هل تكون محكمة التعقيب قد قبلت عن هذا المطعن لما صرحت أن محكمة الأصل خالفت القانون معتبرة أن المسالة الفنية واقعة مادية تثبت بجميع وسائل الإثبات وهو ما يعد تعليل غير مقنع؟
69. إذا كان واجب النصح والإرشاد في القرار السابق محمول على الفني فإنه في القرار الصادر تحت عدد 24186 بتاريخ 16 فيفري 2009 (غير منشور) يكون محمولا على الطرف القوي. فقد جاء فيه :
وحيث ان تحديد نطاق العقد لا يقتصر على ما صرح به بل يتعداه ليشمل كل الإلتزامات الناشئة عن العرف أو الإنصاف أو القانون عملا بأحكام الفصل 243 من المجلة المدنية. وفي هذا الصدد فإن واجب الإعلام والإرشاد وواجب إسداء النصح والمساعدة هي التزامات محمولة على الطرف القوي لتحقيق سلامة تنفيذ العقد بدون حصول إضرار لأي من الطرفين. وفي صورة الحال لم تشعر المعقب ضدها معاقدتها مسبقا بعزمها على تغيير سمك بطاقات الشحن قبل القيام بذلك ولم تتخذ أي وسيلة للحد من تفاقم الخسارة واقتصرت بمطالبتها بأداء ما تخلد بذمتها ثم إعلامها بأنها لا تقبل تجديد العلاقة التعاقدية. وهذه التصرفات تعد خطأ تعاقديا يوجب المسائلة والتعويض عند الإقتضاء. ودفعت المعقبة حاليا بهذه الدفوع الجوهرية إلا أن محكمة الحكم المطعون فيه لم تجب عنها إجابة مقنعة واكتفت بالقول ان العقد شريعة المتعاقدين عملا بأحكام الفصل 242 م.إ.ع وتجاهلت أحكام الفصل 243 من نفس المجلة المتممة للفصل السابق والمؤكدة على ضرورة تنفيذ العقد بحسن نية أي وفق العدالة العقدية التي توجب المحافظة على التوازن بين مصالح الطرفين وتكون بذلك هضمت حقوق الدفاع ..."
الفقرة الثالثة : جزاء الإخلال بالعقد
يؤدي الإخلال بالعقد إلى فسخه والتعويض عن الضرر. وقد طرحت على محكمة التعقيب مسالتين هامتين تتعلق بالفسخ القضائي (أ) للعقد وبالشرط الجزائي (ب).
أ- الفسخ القضائي[35]
70. أثار الفسخ القضائي للعقد إشكالا قانونيا بالنظر إلى ما نصت عليه أحكام الفصل 273 من مجلة الإلتزامات والعقود التي اقتضت أنه "إذا حل الأجل وتأخر المدين عن الوفاء فللدائن الحق أن يغصب المدين على الوفاء إن كان ممكنا وإلا فسخ العقد..." كان السؤال المطروح على محكمة التعقيب هو تقدير ما إذا كان هذا النص يؤسس تفاضلا بين دعوى التنفيذ العيني للإلتزام ودعوى الفسخ بحيث يكون الدائن ملزما باحترام ترتيب في القيام على المدين أم أن للدائن خيار بين هذين الدعويين. كان فقه القضاء في السابق يقر بوجود التفاضل ولا يؤول إلى الفسخ القضائي إلا بعد استحال التنفيذ العيني. يمثل القرار الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب الصادر تحت عدد 35350 بتاريخ 29 فيفري 1996 تحولا هاما في تأويل الفصل 273. فقد جاء فيه[36] :
"إن الرأي القائل بأن طلب الفسخ موقوف على تعذر الوفاء لا سند له من القانون وتفسير غير سليم لأحكام الفصل 273 م.إ.ع. الذّي جاء صريحا في كون طلب الغصب هو حق للدائن موقوف على شرط الإمكانية (المادية والقانونية) إذ جاء فيه "للدائن الحق" ولم يجعل ممارسة حق الغصب شرطا لطلب الفسخ.
إن إرادة المشرع واضحة في حماية الدائن الذي يتعرض لمماطلة مدينه خصوصا فيما يتعلق بالإلتزام الأصلي وقد مكنه من وسائل متعددة لتلك الحماية إذ خوله حق الإمتناع عن الوفاء حسب الفصلين 246 و247 م.إ.ع. وخوّله حق فسخ العقد بيده إن اشترط ذلك حسب الفصل 274 م.إ.ع. كما خوله اللجوء للمحكمة لطلب غرم الضرر إلى جانب حق غصب المدين على الوفاء إن كان ممكنا ماديا وقانونيا وخوله حق طلب الفسخ إن كانت مصلحته تقتضيه لكن تحت رقابة المحكمة ولم يفرض القانون ترتيبا حتميا لممارسة تلك الحقوق.
إن منع الدائن من طلب فسخ العقد رغم مماطلة معاقده وإلزامه بان يلجأ للقضاء أولا ليخوض تجربة إجبار معاقده على الوفاء بما في التجربة من تكاليف وإضاعة للوقت وتهديد بضياع حقه في الفسخ الذي قد يصبح متعذرا لتعلق حق الغير بالمتعاقد عليه يؤدي إلى تفضيل للمعاقد المخل بالتزامه على المعاقد الذي يوفي بها وإلى إضعاف الضمانات التي تحفظ للعقود حرمتها وإرهاق الطرفين والمحاكم بكثرة القضايا فضلا عن مخالفته للقانون.
يكون ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من اعتبار القيام بطلب الفسخ موقوفا على مجرد طلب الوفاء أو القيام بدعوى الوفاء أو على اشتراط الفسخ مخالفا لأحكام الفصل 273 م.إ.ع ويستوجب النقض والإحالة"
71. ما هي المعايير التي اعتمدتها محكمة التعقيب لتغيير موقفها في تأويل الفصل 273 ؟ نميز في القرار المذكور ثلاثة معايير. فالأول نصي والثاني مستمد من إرادة المشرع والثالث براقماتي بالنظر إلى الآثار الوخيمة التي يمكن أن تنجر من تتبع التنفيذ العيني للإلتزام أولا. انتقد شراح القانون القرار المذكور في أسلوبه المتجاهل للفقه القضاء السابق والمستقر كما انتقده في جميع معايير التأويل التي اعتمدها. فما اعتبرته المحكمة تأويلا نصيا للفصل 273 انطلاقا من عبارة للدائن الحق هو تاويل ناقص لأنه أهمل أن يعطي معنى لعبارة و"إلا" عند ذكر الفسخ. فهذه العبارة تفيد الإستثناء بالنظر إلى الأصل. فلم يذكر المشرع أو الفسخ. أما "إرادة المشرع" التي عبرت عنها محكمة التعقيب فهي لم تكن سوى أسلوبا تقريريا يتناقض مع الأصول التاريخية للنص كما ظهرت في المشروع الأول لمجلة الإلتزامات والعقود. وعلى كل حال فإن إرادة المشرع في تقرير تخيير المدين لم يستدل عليها بالرجوع إلى مؤسسة الدفع بعدم التنفيذ أو بمؤسسة جواز الشرط الفسخي. وينتهي الفقه بنقد الفكرة التي ترى أن حماية الدائن تقتضي تخييره بين التنفيذ العيني للإلتزام والفسخ القضائي.
72. يبدو ان قرار الدوائر المجتمعة أسس لفقه قضاء جديد في تأويل الفصل 274 م.إ.ع. فقد صدر القرار عدد 5819 مؤرخ في 7 أفريل 2005، نشرية 2005، ص. 145 معيدا نفس الحيثيات قرار الدوائر المجتمعة.
وحيث اقتضت أحكام الفصل 268 من م.إ.ع انه يعتبر المدين مماطلا إذا تأخر عن الوفاء بما التزم به في الحل أو البعض بدون سبب صحيح.
وحيث اقتضت أحكام الفصل 273 م.إ.ع انه إذا حل الأجل وتأخر المدين عن الوفاء فللدائن الحق ان يغصب المدين على الوفاء إن كان ممكنا وإلا فسخ العقد.
وحيث اعتبرت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة ضمن قرار عدد 35530 الصادر بتاريخ 29 جوان 1996 بأن الرأي القائل بان طلب الفسخ موقوف على تعذر الوفاء لا سند له من القانون وتفسير غير سليم لأحكام الفصل 273 من م.إ.ع الذي جاء صريحا في كون طلب الغصب هو حق للدائن متوقفا على شرط الإمكانية (المادية والقانونية) إذ جاء به "فللدائن الحق" ولم يجعل ممارسة حق الغصب شرطا لطلب الفسخ وان إرادة المشرع واضحة في حماية الدائن الذي يتعرض إلى مماطلة مدينه خصوصا فيما يتعلق بالإلتزام الأصلي وقد مكنه من وسائل متعددة لتلك الحماية إذ خوله حق الإمتناع عن الوفاء بجهته حسب الفصلين 246 و247 من م.إ.ع وخوله جعل الفسخ بيده إن اشترط ذلك حسب الفصل 274 من م.إ.ع كما خوله حق اللجوء لطلب غرم الخسارة إلى جانب حق غصب المدين عن الوفاء إن كان ممكنا ماديا او قانونيا وخوله طلب الفسخ إن كانت مصلحته تقتضيه لكن تحت رقابة المحكمة ولم يفرض القانون ترتيبا حتميا لممارسة تلك الحقوق.
73. أسس القراران السابقان لمبدأ خيار الدائن بين طلب التنفيذ العيني للإلتزام والفسخ إلا إنهما وضعا إمكانية استثناء الفسخ الذي يجري تحت رقابة القضاء. فقد جاء في القرار عدد 2472 المؤرخ في 12 اكتوبر 2004 نشرية 2004 ص. 209
أن التأخر عن الوفاء الوارد بالفصل 273 من م.إ.ع يقصد به التأخر عن الوفاء دون سبب صحيح بما يجعل المدين مماطلا على معنى الفصل 268 وليس مجرد عدم الوفاء في الأجل المحدد ومهما يكون السبب.
وحيث يتضح بالرجوع إلى الحكم المطعون فيه أن محكمة القرار أكدت على ثبوت مماطلة المدين معتبرة أنه حتى مع استعداده لدفع باقي الثمن فهو لم يجسم ذلك فعليا إلا أنها لم تأخذ بعين الإعتبار عملية عرض ثمن البيع المجراة قبل صدور الحكم الإبتدائي كما ان المحكمة رتبت الفسخ على ثبوت المماطلة والحال ان الدائن لا حق له في طلب الفسخ من أول وهلة بل يقتصر على طلب الوفاء فإذا ثبت عجز المدين التجأ إلى الفسخ فلما قضت محكمة القرار بالفسخ دون الأخذ بعين الإعتبار استعداد المدين للأداء ومحضر عرض المال الموجه للدائن تكون قد خرقت مقتضيات الفصل 273 من م.إ.ع ...
ب- الشرط التغريمي
74. ثلاثة قرارات تشد اهتمامنا حول هذا الموضوع. الأول تحت عدد 42624 بتاريخ 28 أفريل 1994 وهو قرار لقي حظه من النقاش لدى الفقه[37] خاصة وانه أقر الرقابة القضائية على الشرط الجزائي. أما القراران الثاني والثالث فهما لم يسترعيا انتباه الفقه وقد صدرا بخصوص الشرط الجزائي في مادتي البعث العقاري والإيجار المالي وهما يطرحان بعض الخصوصيات.
1- تحول فقه القضاء لقبول المراجعة القضائية للشرط التغريمي
75. طرحت محكمة التعقيب السؤال القانوني المعروض عليها على النحو التالي : هل لمحكمة الأصل الحق فعلا في ممارسة رقابة على الشرط الجزائي أم ان دورها مقتضي فقط على تزكيته والقضاء به بصورة آلية حتى في صورة التنفيذ الجزئي للإلتزام الأصلي أو تعذر ذلك مطلقا بسبب القوة القاهرة أو الأمر الطارىء أو كان ذلك الشرط منافيا للنظام العام والأخلاق الحميدة ومتعارضا مع مبدا العدل والإنصاف ؟ لم تعرف محكمة التعقيب الشرط الجزائي إنما هي أحالت إلى التعريف الذي أورده قضاة الأصل من كونه "شرط يقتضي تعويض الضرر بمبلغ مالي يتفق عليه المتعاقدان" وقد كان عليها أن تختم قولها بان الإتفاق حول الشرط يتم وقت التعاقد ونشأة الإلتزام.
للإجابة عن هذا السؤال، ذكرت محكمة التعقيب بالحلول القضائية السابقة مؤكدة على عدم استقراره إلى حين صدور قرار الدوائر المجتمعة المؤرخ في 28 أفريل 1975 المنتهي بتقرير أنه ليس للمحكمة أن تعدل من الشرط الجزائي. كما استعرضت محكمة التعقيب القوانين المقارنة التي تقر سلطان القاضي في التعديل.
قلما نعثر على قرار مثل هذا الذي صدر في 1994 والذي يبحث اتجاهات فقه القضاء أو القانون المقارن من الدول العربية أو الأوروبية والجدير بالتنبيه إلى أننا لا نعثر صلب القرار على استعراض لموقف الفقه من المسألة.
بعد ذلك ذكرت المحكمة بمحتوى الفصل 278 من مجلة الإلتزامات والعقود الذي يمنح حسب قولها القاضي سلطة تقديرية في ضبط التعويض الخسارة الناتجة عن عدم تنفيذ الإلتزام وخلصت من ذلك إلى أنه مع " انتفاء القواعد الضابطة للشرط التغريمي فإن على القاضي المتعهد بالخصومة استنباط الحلول عند غياب النص وفق القواعد الخاصة المنصوص عليها بمجلة الإلتزامات والعقود". وقد هيأها هذا إلى الإنتهاء بالحكم بأنه :
ولئن كان الشرط الجزائي خاضعا لسلطان الإرادة وحرية التعاقد تنفيذا لمقتضيات الفصل 242 من مجلة الإلتزامات والعقود إلا أن هذا لا يمنع محكمة الموضوع في نطاق سلطتها التقديرية من إجراء ما لها من حق المراقبة على ذلك الشرط بالزيادة أو التنقيص فيه أو الإبقاء عليه عند الإقتضاء أو إلغائه بحسب أحوال كل قضية على معنى الفصل 278 من نفس المجلة تحقيقا لمبادئ العدل والإنصاف بشرط التعليل.
تناول العديد من الفقهاء التعليق على هذا القرار ولئن كان جلهم يرحب بالنتيجة التي توصلت إليه محكمة التعقيب والتي تقطع مع فقه القضاء الذي استقر بعد صدور قرار الدوائر المجتمعة في 1975 فإنهم عبروا عن بعض الإحترزات حول تعليله.
فمن جهة أولى لوحظ أن محكمة التعقيب لم تبرر بوجه كافي الأساس القانوني لسلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي. فهذه السلطة لا يستمدها من الفصل 278 م.إ.ع. الذي ينظم صورة تقدير القاضي للضرر في غياب الشرط الجزائي. فثمة فرق بين تقدير الضرر وتعديل التعويض المشترط. كما أن القول بأن انتفاء القواعد الضابطة للشرط التغريمي يكون بمثابة فراع تشريعي يلزم القاضي استنباط حل وفق القواعد الخاصة (ربما تقصد القواعد العامة) المنصوص عليها بمجلة الإلتزامات يبقى ناقصا لأنه كان جديرا بالمحكمة بيان هذه القواعد.
من جهة ثانية فإن الفقهاء لاحظوا ان محكمة التعقيب لم تبين شروط تدخل القاضي في تعديل الشرط الجزائي. فقد جاءت صيغة قرارها على نحو عام يجيز التعديل في نطاق ما لقاضي الأصل من سلطة تقديرية وهذا من شأنه أن يفرغ الشرط الجزائي من كل أثر قانوني. وقد اكتفت المحكمة بشرط التعليل عندما يتدخل القاضي والحال انه ينبغي عليها وضع قاعدة قانونية ومعيار سلوك. فإذا كان الشرط الجزائي صحيحا كان على محكمة التعقيب أن تبين أن تدخل القاضي يبقى استئنائيا وفق معيار الإجحاف.
ختاما فإن إتجاه الفقهاء في تأصيل تدخل القاضي في تعديل الشرط الجزائي يتراوح بين تطبيق الفصل 243 والفصل 531 م.إ.ع.
2- الشرط التغريمي في البعث العقاري
تخضع عمليات البعث العقاري إلى أحكام خاصة كرسها القانون عدد 17 لسنة 1990 المؤرخ في 26 فيفري 1990 المتعلق بالبعث العقاري والأمر عدد 1330 لسنة 1991 المتعلق بالمصادقة على كراس الشروط العامة للبعث العقاري. ولم يقتصر المشرع في هذه النصوص على وضع قواعد مراقبة إدارية لمؤسسات البعث العقاري بل هو نظم أيضا العقود التي تبرمها مع حرفائها. فالعلاقة بين الباعث العقاري والحريف الراغب في الشراء تحكمها قواعد خاصة إلى جانب قواعد القانون العام.
نص الفصل 11 من قانون البعث العقاري على انه يجب التنصيص صلب عقد الوعد بالبيع على تاريخ التسليم وعلى غرامات التأخير. ونص الفصل 15 من كراس الشروط على ان في صورة التأخر في حالة التأخير في تسليم العقار المباع، يكون للمشتري الحق في غرامة تأخير يومية تعادل (2000/1) من قيمة التسبقات المدفوعة كما هو منصوص عليه بوعد البيع ولا يمكن أن تتجاوز تلك الغرامات نسبة (15%) من المبالغ المسبقة حسب وعد البيع.
الأسئلة التي يمكن أن نطرحها على ضوء تلك النصوص القانونية والترتيبية عديدة. فهل أن غرامة تأخير يومية تكييفها شرطا جزائيا ؟ وهذا السؤال له أهميته في صورة صمت العقد عن التنصيص عليها فهل يكون ذلك مؤديا لعدم استحقاقها ؟ من جانب آخر هل يشترط استحقاق الغرامة إثبات الضرر؟ وهل يجوز للقاضي تعديل مبلغ الغرامة بالزيادة أو التقليص من مبلغها.
حيث لا شك أن المتعاقدان اتفقا في العقد على انه إذا أخلت الشركة الطاعنة بالتزامها خلال المدة المحددة والمتفق عليها فإنها تدفع إلى المعقب ضده غرامة تأخير يومية بما قيمته 1/2000 من ثمن المحل عن كل يوم تأخير.
وحيث أن المقصود بالشرط الجزائي ليس التعويض في حد ذاته وإنما حث المدين على الإيفاء بالتزامه عينا ولا يصار إلى إعمال الشرط الجزائي إلا إذا وقع إثبات الضرر الذي لحق بمدعيه من جراء عدم تنفيذ المدين بالتعهد لأنه من المتفق عليه أن عدم تنفيذه للتعهد لا يترتب عليه الحق في التعويض إلا إذا وقع الدليل على قيام الضرر من جراء عدم تنفيذ ذلك التعهد.
وحيث أن الحاصل من الحكم المنتقد والأسانيد التي انبنى عليها أن المعقب ضده اتخذ منحى ملتويا في النزاع بشان الإلتزام بما يقطع بسوء قصده ضرورة أنه راسل الطاعنة بمكتوب ضمنه اعتذاره عن إتمام البيع وعدوله عن ذلك نتيجة لظروفه المادية الصعبة التي مر بها وهو ما دعا الطاعنة إلى القيام عليه في فسخ الوعد بالبيع.
وحيث طالما أن مناط التعويض هو ما ينال الدائن من ضرر وأن إعمال الشرط الجزائي يقتضي تقصيرا من جانب المتعهد به من جراء الإخلال بالشرط التعاقدي وطالما أن محكمة الحكم المنتقد لم تتول استظهار تلك العناصر كما انها لم تبين بالوجه الكافي المدة الحاصل فيها التأخير والمماطلة فعلا سيما وأن ذلك له تأثير واضح على تقدير الضرر الحاصل للمعقب ضده إن كان.
كان التنصيص صلب العقد على غرامة التأخير اليومية كافيا لمحكمة التعقيب لتكييفها شرطا جزائيا وهو موقف محل نظر. فغرامة الشرط الجزائي في مبدئها وفي طريقة تقديرها تبقى خاضعة لإرادة الأطراف وهو ما لا يتوفر في مادة البعث العقاري. فعلى فرض عدم التنصيص على الغرامة صلب العقد فإن الحريف لا يفقد حق المطالبة بدفعها لما في القانون من أحكام حمائية آمرة.
لم يكن التكييف الذي اتخذته محكمة التعقيب حول طبيعة الغرامة مرتبطا بالسؤال الثاني المتعلق بشروط استحقاق الغرامة من طرف الحريف. فقد كانت محكمة التعقيب مدعوة أن تجيب عما إذا كانت الغرامة اليومية لا تستحق إلا في صورة إثبات الضرر. أجابت محكمة التعقيب أنه لا يصار إلى إعمال الشرط الجزائي إلا إذا وقع إثبات الضرر الذي لحق بمدعيه من جراء عدم تنفيذ المدين بالتعهد لأنه من المتفق عليه أن عدم تنفيذه للتعهد لا يترتب عليه الحق في التعويض إلا إذا وقع الدليل على قيام الضرر من جراء عدم تنفيذ ذلك التعهد. قد لا نتفق مع هذا الموقف لأن التزام الباعث العقاري بالتسليم في الأجل هو التزام بتحقيق نتيجة. وعدم تسليم العقار في الأجل كافي لإقامة الحجة على وجود الخطأ. والشرط التغريمي أو الغرامة القانونية يفترضان حصول الضرر المتوقع نتيجة عدم تنفيذ الإلتزام. ونقيم هنا قياسا مع الصورة التي يكون فيها المدين ملزما بان يؤدي مبلغا ماليا في أجل معين، فالتأخر في الوفاء في الأجل ينجر عنه توظيف فائض تأخير بالنسبية القانونية أو الإتفاقية دون الحاجة إلى إثبات الضرر (الفصل 278 م.إ.ع). قد لا يكون لقرار المحكمة البعد الذي يمكن أن نفهمه من الحيثية السابقة بالنظر إلى ما ورد بقرارها من كون أن المعقب ضده اتخذ منحى ملتويا في النزاع بشأن الإلتزام بما يقطع بسوء قصده ضرورة أنه راسل الطاعنة بمكتوب ضمنه اعتذاره عن إتمام البيع وعدوله عن ذلك نتيجة لظروفه المادية الصعبة التي مر بها. فهذه الحيثية تفيد أن الحريف هو الذي رفض مواصلة تنفيذ العقد. قد يكون ذلك صحيحا إلا أننا نشير إلى أن قانون البعث العقاري يخول المشتري العدول عن الشراء بصفة أحادية الجانب طالما انه لم يتم خلاص كامل الثمن. فقد يكون المشتري عدل عن الشراء لما تأخر الباعث العقاري عن الوفاء بواجب التسليم لأنه لم يتم البناء في الأجل المتفق عليه. فمن حق المشتري الجمع بين العدول عن الشراء وعدم السعي إلى تنفيذ العقد عينا والمطالبة بدفع غرامة التأخير. بعد أن ذكرت محكمة التعقيب أن إثبات الضرر هو أمر ضروري لاستحقاق غرامة التأخير فإنها نقضت الحكم المنتقد لكونه لم يبين وجه الخطأ من جانب المتعهد بالشرط التغريمي كما أنه لم يتول استظهار لم يبين بالوجه الكافي المدة الحاصل فيها التأخير والمماطلة. كان من المتعين التثبت في الخطأ قبل الحديث عن الضرر.
3- الشرط التغريمي في الإيجار المالي[39]
تخضع عمليات الإيجار المالي لقانون خاص هو 87 لسنة 1994 المؤرخ في 26 جويلية 1994 غير أن المشرع لم ينظم الإيجار المالي في جميع جوانبه وهو عموما خلا من التدخل في العلاقة التعاقدية بين مؤسسة الإيجار المالي والحريف وهي علاقة تخضع في أغلبها للقانون العام (الفصل 2 من القانون).
يحدد عقد الإيجار المالي مدة الإيجار وثمنه. وعند تحديد الثمن يأخذ بعين الإعتبار تكلفة شراء التجهيزات أو العقار والقيمة الزائدة التي تمثل الربح المالي الذي يعود لشركة الإيجار المالي.
عموما يحرر عقد الإيجار المالي على نحو يجعل العملية مالية بوجه خالص بما يؤمّن شركة الإيجار المالي ضد كل الإلتزامات القانونية التي تحمل عادة على المكري. وتقتضي الطبيعة المالية لعملية الإيجار الوفاء التام بمعينات الكراء في الأجل المتفق عليه. وتتضمن العقود بصفة تكاد تكون آلية شرطا فسخيا في صورة عدم الوفاء في الأجل.
في صورة ما انفساخ العقد بموجب تخلف المدين عن الوفاء بالإيجار في ميعاده، فإنه يجب تحديد آثار الفسخ. فمن الطبيعي ان تقوم مؤسسة الإيجار المالي باسترجاع التجهيزات أو العقار الماجور. لكن هذا قد لا يكون كافيا لتعويض الضرر الناتج عن الفسخ. فقد تبقى بعض المبالغ المرصودة لشراء التجيهزات أو العقار المؤجر للحريف غير خالصة كليا أو جزئيا ويفوت هذا علاوة على فوات الربح. ليس من شك أن انفساخ العقد لا يحول دون طلب التعويض لكن في أغلب الحالات يتضمن عقد الإيجار المالي شرطا جزائيا يقدر مبلغ التعويض المستحق.
تطلب مؤسسات الإيجار المالي عند إبرام عقد الإيجار المالي من الحريف ان يكتتب سندات لأمر بمبلغ الإيجار المالي ويعين تاريخ الدفع بحسب أجل خلاص الإيجار. وفي صورة انفساخ العقد فهي تقوم باستصدار أمر بالدفع. وفي القضية التي طرحت على انظار محكمة التعقيب في قرارها التالي نص العقد حسب ما يبدو على "أن المتسوغ إلى جانب إرجاع المعدات موضوع عقد الكراء مطالب بتسديد معينات الكراء المتبقية إلى حين انقضاء المدة العادية للكراء وعليه". تبدو الإشكالية المطروحة في هذا القرار هي تحديد الموجب القانوني الذي يلزم مكتتب السند الأمر أن يدفع المبلغ المضمن به. فهل يكون ذلك بعنوان أداء مبلغ كراء أم بموجب شرط جزائي؟ كان جواب محكمة التعقيب على النحو التالي.
إن السندات المؤسس عليه الأمر بالدفع تعتبر توثقة لعقد الإيجار المالي الذي ولئن كان يشمل موضوعه على كراء معدات وأدوات يختارها الحريف وتقتنيها الشركة المسوغة وفق رغبته إلا انه في جوهره نوعا من القروض وفق ما اقتضاه الفصل 6 من القانون عدد 89 لسنة 1994 المتعلق بالإيجار المالي يحكم طبيعته المزدوجة فإن فسخ أو انفساخ ذلك العقد لا يحول دون إمكانية المطالبة بتسديد تلك المبالغ المالية المضمنة بالسندات لأمر.
وحيث أنه تأكيدا لذلك وبالرجوع إلى عقد الإيجار المالي الرابط بين الطرفين يتبين من الفقرة الأخيرة من فصله الثالث أن المتسوغ إلى جانب إرجاع المعدات موضوع عقد الكراء مطالب بتسديد معينات الكراء المتبقية إلى حين انقضاء المدة العادية للكراء وعليه فإن التمسك بأحكام الفصلين 284 و336 م.إ.ع وغيرها من القواعد المنظمة للكراء العادي في غير طريقه.
وحيث أن محكمة القرار المنتقد ولئن توصلت إلى النتيجة الصحيحة إلا أن استنادها على سبب بقاء المعدات موضوع الكراء على ذمة الطاعنة للقضاء بوجوب أداء معينات الكراء دون الأخذ بعين الإعتبار لطبيعة عقد الإيجار المالي وخاصة ما تضمنه فصله الثالث تكون قد أخطأت في التسبيب بما يتعين معه تأييد منطوق قضائها بالإعتماد على الأسباب المبينة آنفا إذ لا مصلحة في نقض حكم نتيجته صائبة.
في هذه الحيثية الأخير تعيب محكمة التعقيب على محكمة الأصل أنها كيفت المبالغ المحكوم بأدائها بكونها معينات إيجار مستحقة الدفع طبق القواعد العادية للإيجار وهذا النقد الموجه لمحكمة الأصل مفهوم لأن العقد انفسخ وبالتالي فإنه لا موجب لدفع إيجار الذي لا يعدو ان يكون المقابل الذي يدفع المؤجر لقاء الإنتفاع بالشيء. إلا ان محكمة التعقيب استبدلت السند القانوني بسند آخر مأخوذ من العقد وهو الفصل الذي ينص على أن المتسوغ إلى جانب إرجاع المعدات موضوع عقد الكراء مطالب بتسديد معينات الكراء المتبقية إلى حين انقضاء المدة العادية للكراء وعليه". فهل تكون محكمة التعقيب أحسن قضاء لما اكتفت بتطبيق العقد والحال أنه هو أيضا ينص على أن المستأجر المخالف يستمر في دفع الإيجار؟ فالطرفان كيّفا على هذا النحو الطبيعة القانونية للمبالغ المستحقة بكونها معلوم إيجار. كان ثمة وعي لدى محكمة التعقيب أن المبلغ المستحق ليس إيجارا إلا أنها لم تع بكونه تعويضا إتفاقيا عن ضرر لحق مؤسسة الإيجار المالي من جراء الفسخ. وهذا الوعي هو أيضا كان غائبا عن أطراف الخصومة وخاصة عن المستأجر الذي كان بإمكانه أن يبسط النقاش على مستوى النظام القانوني للشرط الجزائي لطلب تعديله إن كان فيه شطط حسب ما يذهب إليه اتجاه محكمة التعقيب الحديث.
ماي 2009
[1] قرار عدد 6755 مؤرخ في 9 ديسمبر 1982، نشرية 1982، ج. 4، ص. 304 ; قرار عدد 25874 مؤرخ في 6 نوفمبر 1990 نشرية 1990، ص. 284.
[2] قرار عدد 6861 مؤرخ في 5 جوان 2001 نشرية 2001، ص. 78 "حيث أنه لئن كان إذن الحاكم يعد شرط صحة لتصرف الولي المدير لكسب ابنه القاصر فيما هو موكل لنظره بمثل بيع فإنه يبقى من حق القاصر المذكور مع ذلك إبطال التصرف إجازته بعد رشده صراحة او ضمنا بالإحجام عن طلب الإبطال".
[3] محمد الشرفي وعلي المزغني، أحكام الحقوق، دار الجنوب للنشر، تونس، ص. 175. يتوقف نفاذ عقود التصرف والتفويت (البيع) على ترخيص القاضي"
[8] الصورة تختلف عن تلك نص عليها الفصل 163 من مجلة الأحوال الشخصية الذي صرح بأن تصرفات المجنون غير نافذة وتصرفات ضعيف العقل قبل الحجر يمكن إبطالها إذا كان مشتهرا بضعف العقل وقت إبرامها.
[10] يجب أيضا أن نميز بين عملية إصدار الفاتورة من طرف البائع أو مسدي الخدمة وتسلم الفاتورة من طرف المشتري أو المنتفع بالخدمة علما بأن قانون 29 جويلية 1991 المتعلق بالمنافسة والأسعار يلزم كل مهني بالمطالبة بفاتورة شراء أو إسداء الخدمة.
[11] صدر الحكم الإبتدائي بعدم سماع الدعوى بناء على أن التعريف بالإمضاء بواسطة مأمور عمومي تتوفر فيه شروط الفصل 454 من مجلة الإلتزامات والعقود وبالإضافة إلى ذلك فإن إمضاء المدعيتين كان بخط اليد ولا ببصمة الإبهام. فنقضت محكمة الإستئناف الحكم وقضت لصالح الدعوى بناء على أن التعريف بالإمضاء لا يتحقق به الشرط الشكلي الذي اقتضاه الفصل 454 من مجلة الإلتزامات والعقود لصحة التزام الأمي وإنما يحقق صحة هوية كل من أمضى الكتب. وقد يكون الإختلاف بين محكمة البداية ومحكمة الإستئناف هو أن الأولى اعتبرت أن الأمية غير ثابتة لكون أن التوقيع كان بخط اليد ولا ببصمة الإبهام. عرف القرار عدد 38866 المؤرخ في 21 جوان 1994 (نشرية 1994 ص. 377) الأمي بكونه "الذي يمضي على الكتائب التي يعقدها إما بوضع علامة إبهامه أو بوضع قاطع ومقطوع أو علامة صليب أو غيرها من العلامات التي لا تمت للواقع بشيء".
[14] إلا أن وجه الإختلاف مع ذلك النص يمكن في النتيجة المترتبة عن عدم احترام موجباته. في صورة عدم توفر تلك الشروط المتعلق بحضور الشاهدين والإفهام تعتبر الوثيقة بداية حجة كتابية في حين أن فقه القضاء يرتب عن ذلك البطلان. محمد كمال شرف الدين، قانون مدني، النظرية العامة – الأشخاص – إثبات الحقوق، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، الطبعة الأولى 2002، ص. 276.
[18] أنظر أيضا القرار عدد 49025 مؤرخ في 5 مارس 1998، نشرية 1998، ص. 145. ولئن اثبتت الشهادتان الطبيتان مرض مورث الطرفين فإن ذلك كان قبل ثلاث سنوات كاملة قبل وفاته كما أن الشهادة لم تثبت ان مورثهم كان في حالة ميؤوس منها وكان عاجزا عن القيام بواجباته بنفسه قبل فترة قصيرة من موته ولو كانت تلك المدة عام..
[19] أيضا القرار عدد 4831 مؤرخ في 11 جانفي 2005، نشرية 2005، ص. 153 "وحيث أن المرض المزمن متى استفحل وتطورت أعراضه لتنذر بنهاية قريبة غير مستنثى من أحكام الفصل 565 من م.إ.ع.".
[23] الفصل 116 م.إ.ع. : "الشرط هو تصريح بمراد المتعاقدين وبموجبه يعلق وجود الإلتزام أو انقضاؤه بأمر مستقبل غير متحقق الوجود".
[24] الفصل 23 م.إ.ع لا يتم الإتفاق إلا بتراضي المتعاقدين على أركان العقد وعلى بقية الشروط المباحة التي يجعلها المتعاقدان كركن له..
[30] نفس التوجه اتخذه فقه القضاء الفرنسي في صورة ما وضع مهني شيء على ذمة مهني آخر مرتبط معه بعقد بعوض لينتفع به بدون مقابل.
François GRUA, prêt à usage – caractères, art. 1875 à 1879, Jurisclasseur civil, n°66 et 67.
[31] هناك إشكال أول يتعلق بالنظام القانوني الذي تتبعه محكمة التعقيب عندما تستبدل السند القانوني الصحيح بالسند القانوني الخاطئ للحكم المنتقد والثاني يتعلق بتأثير هذا الإستبدال على اتصال قضاء الحكم المنتقد. فإذا كانت محكمة الأصل رفضت الدعوى لانعدام الحجة فإنه يجوز مبدئيا للضحية إعادة القيام بالدعوى والإتيان بالإثبات. أما في صورة الحال، فإن محكمة التعقيب اعتبرت أن الضحية اقترفت خطأ وهي بذلك بتت في الأصل. فلا يكفيها استبدال السند بل كان عليها أيضا استبدال نص الحكم بالتصريح بعدم سماع الدعوى.
[32] Jean-Claude Groslière, Bail, Rép. Civ. Dalloz, 1997, n°220 et 221.
[33] محمد حمودة، في الوفاء بالإلتزامات مع تمام الأمانة، تيارات في القانون الحديث، مجموعة مقالات مهداة إلى الأستاذ ساسي بن حليمة، مركز النشر الجامعي، ص. 1079.
[34] Bruno PETIT, Obligation d’information, Fasc. 50, Jurisclasseur Civil, n°2. « La notion d'obligation d'information doit être largement entendue. Quant à l'objet de l'obligation, il peut s'agir non seulement de fournir une information au sens strict, c'est-à-dire un ou plusieurs renseignements bruts, mais aussi de formuler une mise en garde ou un avertissement relatif à un risque particulier, ou encore de prodiguer un conseil orientant de manière positive le choix ou le comportement du cocontractant. En d'autres termes, il n'y a pas lieu de distinguer, a priori en tout cas …, entre obligation d'information, de renseignement, de mise en garde ou de conseil …: d'une part, le passage d'une obligation à l'autre se fait insensiblement et tient plus aux circonstances de fait qu'aux données de droit ; d'autre part, ces diverses obligations ne constituent que les différentes manifestations d'une obligation générale qu'il convient de désigner par le terme le plus large : obligation d'information ».
[35] بخصوص الشرط الفسخي فقد أكدت محكمة التعقيب على ضرورة احترامه تبعا للأثر الإلزامي للعقد (قرار عدد 4238 مؤرخ في 13 جانفي 2005، نشرية 2005، ص. 123). "حيث ان العقد شريعة الطرفين إذا انعقد على الوجه الصحيح فلا ينفض إلا برضائهما أو في الصور المقررة في القانون تطبيقا لمقتضيات الفصل 242 من م.إ.ع كما اقتضى الفصل 274 من نفس المجلة انه إذا اشترط المتعاقدان ان عدم وفاء أحدهما يما التزم به يوجب فسخ العقد ينفسخ بمجرد وقوع ذلك. وحيث انه طالما أن العقد موضوع النزاع تضمن صراحة الخيار بين البند الفسخي أو البند الإلزامي لإجبار الطرف الآخر على تنفيذ التزامه واختارت الطاعنة الواعدة بالبيع انفساخ العقد وهو جزاء تعاقدي مبناه إرادة الطرفين وتكريسا لمبدأ سلطان الإرادة طالما وان الطرفين اختارا الجزاء المناسب للإخلال الذي قد يصدر عن أحدهما وبالتالي فإن دور محكمة الموضوع ينحصر في التحقق من مدى حصول الشرط الفاسخ استنادا لإرادة الطرفين...و حيث أن محكمة الحكم المنتقد قد أخطأت في فهم الفصل 274 من م.إ.ع وتطبيقه على الشرط التعاقدي الذي هو فسخ آلي يحصل بمجرد توفر شروطه (المتمثل في عدم دفع بقية الثمن) دون حاجة إلى صدور حكم في شأنه.
[37] قرار عدد 42624 بتاريخ 28 أفريل 1994، المجلة القانونية التونسية 1996، ص. 230 تعليق نذير بن عمو، الشرط الجزائي بعد ثلاثين سنة : صحوة البركان. أيضا سامي الجربي، المرجع السابق، ص. 565، فرج القصير، أحكام الشرط التغريمي في القانون التونسي، مجلة القضاء والتشريع، مارس 1998، ص، 101.
Mohamed Bag Bag, De la possible réception de la clause pénale par le Code des obligations et des contrats, RTD 1998, p. 41 ;
Abdelwaheb Rebaï, La vente d’immeuble à construire en droit tunisien, LGDG, 2003, p. 275 et s.